الافتتاحية: ساحات مصر.. والتأثير العالمي!
عند كتابة هذه السطور كانت انتفاضة الشارع المصري قد دخلت مرحلة جديدة في تطورها، فبعد المظاهرات المليونية بساعات، بدأت قوى النظام بشن هجوم معاكس على الأرض لقمع المتظاهرين ومحاولة إغراق الانتفاضة بدمائها على يد زبانيتها وبلطجيتها (المدنيين)، في محاولة لتصوير أن ما أفضت إليه الانتفاضة (المستغلة من قبل قوى سياسية) هو الانقسام في صفوف الشعب المصري، وأن هناك خطر صدام أهلي واسع وفوضى شاملة تغطي مصر كلها، بما يستدعي تدخل أجهزتها بما فيها الجيش للحفاظ على الهدوء والاستقرار، وبعد هذا الاستقرار يمكن أن يتم التفاوض والحوار لإيجاد تسوية ما بين النظام و(معارضته)، أي أن هذا السيناريو هو الترجمة الفعلية لكلمة الرئيس مبارك عشية المظاهرات المليونية وتصوراته عن كيفية سير الأمور ووضعها في (نصابها).
لا يخفى على أحد، وبطبيعة الحال على القوى الإمبريالية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية و«إسرائيل»، أهمية مصر ودورها، فمصر بحال خروجها من التبعية للولايات المتحدة والعدو الصهيوني، وفي ظل موازين القوى الحالية والدقيقة جداً، يمكنها أن تغير ميزان القوى ليس في منطقتنا وحدها، بل سيكون لدورها تأثير على النطاق العالمي.
وهذا ما يفسر سبب حبس العالم لأنفاسه وهو يتجه بأنظاره إلى مدن وساحات مصر، فالمعركة على الأرض العربية ليست فقط بين شعب مضطهد مقهور في مواجهة نظام الاضطهاد والتبعية والنهب والعمالة لأمريكا و«إسرائيل»، بل هو معركة عالمية بالمعنى الحرفي للكلمة، بين جميع مقهوري العالم في مواجهة لصوصه، بغض النظر عن نفاق اللصوص الإعلامي، هذا النفاق المتمثل بالدعوة (للاستماع إلى مطالب الشعب)، والذي يتردد على ألسنة أوباما ومعاونيه وحلفائه مرات عديدة يومياً، والتي لا يخرج جوهرها عن طروحات مبارك بغض النظر عن الاختلاف المتمثل بالحفاظ على مبارك أو بعض أزلامه من عدمه.
فالمطلوب أمريكياً هو الحفاظ على النظام القائم بكل ما يعنيه ذلك داخل مصر وخارجها، واستمرار نظام النهب العالمي القائم ومنع اختراقه بأي ثمن.
كما يفسر ذلك الرعب الذي يعيشه الكيان الصهيوني من التغييرات في مصر، والتي ستؤدي إلى تعزيز القوى المعادية له، بحيث تشق فكرة إمكانية واقتراب زوال الكيان الصهيوني طريقهاً أكثر فأكثر.
ولعل ما يميز انتفاضة الشعب المصري ومنذ الأيام الأولى، تطورها السريع وشمولها جميع المحافظات والمدن المصرية، وانضمام أوساط واسعة من الشعب المصري لصفوفها، من الطلبة إلى العاملين بأجر إلى المثقفين والفنانين وحتى الأزهريين، ما أربك النظام وجعله يترنح، وبدأ بعض رجالاته بالفرار مع عائلاتهم وأموالهم المنهوبة إلى خارج مصر، ولاحت إمكانية سقوطه واضحة.
وبدا أن المتظاهرين يطبقون تكتيكات راقية ببراعة في تحقيق تطوير الانتفاضة السريع على الأرض.
إن تطبيق قوانين الانتفاضة، أي تحقيق تقدم وانتصارات مادية ومعنوية كل لحظة وكل يوم، ووضع الانتفاضة في حالة هجوم وتقدم عند تراجع الخصم كفيل بتحقيق الانتصار.
قد يكون من النعم على الشعب المصري ضعف قواه السياسية التقليدية والتي لا ترتقي برامجها وأدواتها وأساليبها إلى أبعد من محاولات تجميل نظام النهب والتبعية المصري، هذا الضعف الذي يبرز خصوصاً خلال مجريات الانتفاضة. فقد تبين أن هذه القوى لا وزن لها ولا سمعة عند الشعب المصري، وهي في نهاية المطاف بسلوكها ونشاطها وميلها للمساومة تسعى لإدخال الانتفاضة في دهاليز شرعية ودستورية وقانونية النظام المطلوب إسقاطه، والحقيقة أن هذه القوى ستسقط معه بما يؤدي لنشوء فضاء سياسي جديد مطبوع بانتفاضة الشعب المصري.
إن انتفاضة الشعب المصري، وبغض النظر عن النتائج الآنية لها، قد فتحت الباب واسعاً أمام تغيرات واسعة وعميقة في مصر، وفي ميزان القوى على النطاق العالمي، وهذه التغيرات ستكون بلا رجعة، فهي ناتجة عن وصول المشروع الإمبريالي الليبرالي الجديد إلى نهايته ودخوله أزمةً لا مخرج منها، وهذه الأزمة تعمل كمولد لا يتوقف للتناقضات التي تؤدي للانفجارات والانتفاضات، ولسوف تشعل العالم بأسره.