الشعب السوري بأغلبه .. معارض!

الشعب السوري بأغلبه .. معارض!

يؤذن حجم التطورات الأخيرة والخطيرة في الأزمة السورية داخلياً، بعد المجازر المروعة، وتدهور الوضع الأمني وانفلاته، وتنصّل المسؤولين في جهاز الدولة من مسؤولياتهم، حتى عن حماية المواطنين، وعجزهم عن الحلّ السياسي، بأنها لن تمرّ دون أن تترك آثاراً انعطافية على مسارها. 

وربما تتمثل بوادر هذه الآثار في ما يلاحظ من حدوث انزياحات هامّة في المزاج الشعبي العام، على خلفية انهيار وعود أطراف الأزمة كلٌّ لجماهيره باقتراب الخلاص، وانكشاف زيف إدعاءاته بأنّ طريقته وسلوكه ستجلب الحلّ، في حين أنّ ما واجهه الناس على أرض الواقع كان على النقيض تماماً من وعود جميع الأطراف.

قبل سنوات كنّا نقول بأنّ حكومة الفساد النيوليبرالي الدردرية - العطرية قامت بإنجاز واحد عظيم، هو أنها وحّدت الشعب السوري ضدّها وضدّ نهجها التخريبي الذي نرى نتائجه في الأزمة الحالية، ويظهر اليوم أنّ النظام ومعارضته الانتهازية على حدّ سواء لم يقدّما للسوريين شيئاً في هذه الأزمة أفضل من تعميق شرخ الثقة بينهما وبين الشعب السوري.

وفقدان الثقة يعني بأنّ الشعب السوري كلّه متّفق على ضرورة التغيير وعلى وجهته المحددة نحو تلبية حاجاته العميقة والشاملة، الأمر الذي يعرف الجميع أنّه مستحيل دون اقتلاع الفساد الكبير من جذوره بأسرع ما يمكن، ووضع اليد على مصادر النهب لإعادة توزيع الثروة على المنهوبين والفقراء الذين يشكلون الأغلبية الساحقة من المجتمع، وأنّ هذا التغيير الاقتصادي-الاجتماعي مرتبط عضوياً بالتغيير الجذري سياسياً وديمقراطياً، وهذا الارتباط يتعمّق في أذهان الناس يوماً بعد آخر، نظراً لتجربتهم أثناء هذه الأزمة، والتي أظهرت الممانعة الشرسة التي تبديها قوى الفساد والقمع والتطرف داخل جهاز الدولة والمجتمع إزاء هذا التغيير.

مشكلة النظام أنّ أمراض السلطة المزمنة التي يعاني منها لا تنهك مفاصله وهيكله العظمي فحسب، بل ويبدو أنّها انتشرت إلى دماغه، وتسببت له بهلوسات وأوهام بأنّ آجال الإصلاح يمكن تركها مفتوحة إلى ما لانهاية! ومشكلة المعارضة الانتهازية أو العميلة تكمن في أنّها تتوهّم بأنّ الشعب المستاء من النظام سيتوقف تطوره عند مرحلة الغضب والانفعال وردّات الفعل إلى ما لانهاية!

إنّ مستوى ‹‹الذكاء السياسي المتدني›› للغاية  لدى المتشددين على ضفتي الأزمة هو المسؤول الأوّل عن المنزلقات المظلمة التي تندفع نحوها الأزمة السورية كما يرغب ويشتهي المتآمرون الأكثر ذكاءً، من الأعداء التواقين إلى ‹‹الفوضى الخلاقة›› الصهيو- أمريكية.

نحو موجة جديدة

‹‹الحاجة أمّ الاختراع››، لذلك علينا أن نتوقّع اختراعات جديدة من جانب الشعب السوري المبدع، والباحث عن حلول لتلبية حاجاته المتعطشة إلى إشباعها الإنساني، إذ يبدو أنّ أعقد شكل هندسي تستطيع أن تتخيّله تلافيف أدمغة السياسيين التقليديين البرجوازيين لا يتجاوز المثلّث، وذلك لأنّ المثلّث يشبه هرم السلطة الذي يقبع داخله قسمٌ منهم ويطمع به الباقون خارجه. ومقتل كليهما هو أنّ هموم الشعب تقبع في هرم آخر، هو هرم الحاجات الإنسانية المعروف، الهرم الذي لم تستطع فوهات البنادق، سواء من جانب النظام أو المعارضة المسلحة أن تؤمّن أو تحمي حتّى الطابق الأسفل منه، طابق البقاء على قيد الحياة، بل ازدادت حياة السوريين عرضة للانتهاك على عكس ما تقوله كلّ هذه الأطراف التي تدّعي حمايتها.

ولذلك تهتزّ اليوم بشدّة ثقة الشعب السوري بما يعرف بـ ‹‹النظام››، وكذلك بـ ‹‹المعارضة››، وقد يكون هذا مؤشراً هاماً نحو نقلة جديدة إيجابية تبشّر بتوحّد الشعب السوري بأكمله في معارضة شعبية واحدة، حقيقية هذه المرّة ضدّ جميع مكوّنات الفضاء السياسي القديم وما تمثّله من فساد وقمع واستبداد وعجز عن تقديم الحلول للأزمة الراهنة، ولقضايا الشعب العميقة والجذرية، فهل اقتربنا من النسف الواقعي للثنائية الوهمية المضللة ‹‹نظام-معارضة››؟ إذا تعمّق هذا الاتجاه في التطور في المرحلة القادمة، وإذا لم يستطع أطراف الأزمة تلويثه بالطائفية المقيتة، فلا بدّ من أن يؤذن بإطلاق موجة جديدة من الحركة الشعبية تكون أكثر نضجاً ووحدة وقوة، تتجاوز الأمراض التفتيتية المتطرفة من طائفية وإثنية وعشائرية، وعبر الانتقال إلى العمل السياسي السلمي الوطني الشريف ستنتصر على جميع الأطراف الدنيئة التي تحاول إبادتها بأسلحة القتلة المستقويين عليها بذريعة تخوينها أو المستقوية بها بذريعة حمايتها، فكلاهما مأجورون ببضعة آلاف من الليرات السورية أو الدولارات الأمريكية. وثمّة روابط قوية أساسية ستشدّ هذه الحركة الشعبية الشاملة إلى بعضها، وهي مصالحها العميقة المشتركة في كافة مناحي الحياة الاقتصادية-الاجتماعية والوطنية، والتي يفترض بأنّها ستسرّع الفرز السياسي آنذاك داخل الأطراف المختلفة نحو تشكيل الفضاء السياسي الجديد لسورية أكثر قوةً ووحدةً أرضاً وشعباً.