القديم استنفد دوره.. فماذا عن الجديد؟

القديم استنفد دوره.. فماذا عن الجديد؟

يتبادر للذهن للوهلة الأولى عند الحديث عن قوى الفضاء السياسي القديم أن المقصود بذلك هو النظام السياسي والقوى المشكلة له، وطريقة أدائه التي تنتمي لعقود خلت، وقد طغى هذا النفس في بداية انطلاق الحراك الشعبي وتأثير التجارب في تونس ومصر واليمن والبحرين في استسهال نقد ما هو قائم.

 الآن وبعد مضي أكثر من خمسة عشر شهراً على الأزمة في سورية أتضح للجماهير ما هو أكثر من عيوب النظام، وذلك على منحيين الأول:انحسار القداسة عن مفهوم الحراك الشعبي بعد ظهور أشكال تطرف لم تكن موجودة في البداية، مما كون مزاجاً عاماً باتجاه نقده من موقع الحرص عليه وعدم الوقوع في مطبات خطيرة، أما المنحى الثاني:فهو الدور اللاوطني والمشبوه لبعض قوى المعارضة التقليدية التي لم تتورع عن ممارسة أي شيء يوصلها إلى السلطة  كمطالبتها بالتدخل العسكري الخارجي واللجوء إلى خيار التسلح والعنف والإقصاء..ألخ.

يمكن الانطلاق من تلك الخلاصات باتجاه تدقيق مفهومي الفضاء السياسي القديم والجديد، إذ لا يمكن بأي حال إعتبار قوى المعارضة اللاوطنية جزءاً من الفضاء السياسي الجديد لمجرد عدم ممارستها السلطة سابقا، هنا بالضبط يخضع تدقيق المفهومين إلى معايير سياسية ووطنية وطبقية، وليس بحسب القرب من السلطة والبعد عنها. أما في ما يتعلق بقوى الحراك الشعبي ينبغي التوقف قبل أي تسرع خاطئ بالحكم عليها، والنظر إلى عدة أمور أولها أن السبب الرئيسي لأخطاء هذا الحراك هو مستوى القمع الذي تعرض له، وضعف الخبرة السياسية نتيجة غياب شبه كامل للحريات السياسية، بالإضافة إلى الدرجة العالية من التدخلات الخارجية السياسية والإعلامية وحتى العسكرية ولو على نطاق جزئي. أما الأمر الثاني فهو أن الحركة الشعبية حالة واسعة التمدد وهي التي تملك الشرعية الشعبية في نهاية المطاف، ويتمثل الأمر الثالث في البنية الطبقية للحركة الشعبية واحتوائها على شرائح واسعة من المنهوبين والمهمشين..ألخ، و الأمر الرابع والأخير هو مدى التقدم والابداع الذي أحرزته الحركة الشعبية في الأشهر الخمسة عشر الأخيرة أمام تراجع وانحطاط أداء النظام والمعارضة السياسي، أي يمكن القول في المحصلة إن الحركة الشعبية هي الحالة السياسية ذات الميل العام الصاعد، وإن فضاءات واسعة جداً من النظام والمعارضة ذات ميل عام يهبط باطراد، على هذا الأساس فقط وليس على أي أساس آخر نستطيع أن نرى مستقبل سورية السياسي، نرى من هو الجديد ومن هو القديم..

يستشرف التحليل الآنف الفضاءات بالمعنى العام وفي نهاية المطاف، آخذين بعين الإعتبار الاستثناءات من ذلك والتي ليست بقليلة، التي تؤكد القاعدة ولا تنفيها إطلاقاً، أي ستذهب بعض قوى الحراك التي تبعت الفضاء السياسي القديم مع سائسها، وستتكيف بعض القوى العريقة التي استطاعت بخبرتها التاريخية رؤية اللحظة الراهنة. لكن ومن الضروري و كي لانخرج عن السياق المادي والعلمي أن نبحث في انعكاسات اللحظة الراهنة على مستقبل سورية السياسي، فالطريقة التي ستحل بها الأزمة لابد أن تلقي بظلالها على الجديد، آخذين بعين الاعتبار أن مكونات الفضاء السياسي القديم (نظام- معارضة) ما زالت تمسك بجزء هام من الأدوات السياسية والتنفيذية على الأرض، بالإضافة إلى إن الجديد لمّا يولد بعد بشكله المتكامل أي بكونه بديلا عن القديم، والأهم من ذلك هو سعي كلا الطرفين إلى وأد الجديد، قمعاً أو امتطاءً، وهذه النقطة تستوجب التوقف مطولا والبحث عن الأدوات المستخدمة دون ذلك المسعى.إن الأداة السياسية الأخطر على الحركة الشعبية هي تكريس الثنائية الوهمية ( موال - معارض) وما ينجم عنها من انقسام عمودي في المجتمع على أسس ثانوية، أول ما تطيح بالدولة الوطنية كعنصر للوحدة السياسية للبلاد، وفي المقابل طمس الثنائيات الحقيقية المترابطة جدلياً مع بعضها البعض على أسس وطنية واقتصادية- اجتماعية وديمقراطية..

إن تطهر الحركة الشعبية من كل أشكال الفرز الوهمي، وعلى رأسها ثنائية (موال - معارض)

التي تجعل من الوطنيين والمنهوبين والمؤمنين بالحرية والكرامة أعداءً ألداء، يعني أن الحركة الشعبية أصبحت تعي ذاتها، ويعني أنها رمت جانباً طابعها العفوي المدمر. إن حالة التطهر تلك هي الخطوة الحاسمة باتجاه تطور الحركة الشعبية الى تكون الفضاء السياسي الجديد، عندها لن يكون على القديم إلا أن يموت من تلقاء نفسه.