حتى الثورة المضادة تحتاج إلى «عملية سياسية»

حتى الثورة المضادة تحتاج إلى «عملية سياسية»

إذا كانت النتائج السلبية للقرارات الخاطئة تحتاج إلى سنوات للظهور في السابق، فإنها اليوم لا تصمد أياماً حتى تظهر نتائجها الكارثية، والسبب في ذلك هو استعصاء الأزمات المتعددة الوجوه للنظام الرأسمالي العالمي، وللأنظمة المكونة له والتي لايمكن فصلها عنه بأية حال،

 وعلى رأسها أزمة الرأسمالية الاقتصادية العميقة، بالإضافة إلى تزايد درجة النشاط السياسي في أوساط الجماهير على النطاق العالمي شيئا فشيئا مع تعقد الأزمة. من الصعب اليوم وفي ظل هذه الظروف أن تنطلي حيل وأكاذيب قد يطلق عليها اسم عملية سياسية تهدف إلى الحفاظ على المنظومة السابقة المنتجة للأزمات، مع تغييرات سطحية تجميلية تهدف إلى طمس التناقضات الأساسية وإحياء التناقضات الثانوية، وأهم مثال في هذا الإطار بنود المبادرة الخليجية لـ«حل» الأزمة في اليمن، التي سعت إلى إخراج نظام صالح من مرمى نيران القوى الوطنية والشعبية في اليمن، مع الحفاظ عليه من حيث الجوهر، وتحويل الصراع إلى صراع مكونات وقبائل بالإستعانة بتنظيم القاعدة الذي بدأ يلعب دوره المعهود في إطلاق حروب المكونات والفوالق..

لا تختلف اللوحة كثيراً إذا ذهبنا إلى بلدان عربية أخرى، مثل ليبيا التي مهد فيها التدخل العسكري للناتو لكل أصناف العمليات السياسية المشوهة المنتجة للحرب الأهلية وصولاً حد المطالبة والترويج الوقح لتقسيم ليبيا واعتباره مكسباً من مكاسب «الثورة» الليبية، العراق أيضاً شهد شعبه المرارات قبلاً تحت يافطة عملية سياسية رعاها الإحتلال الأمريكي وكان ملوك الطوائف لاعبيها الأساسيين...

مطلب «عملية سياسية» كرد فعل على النزاعات المسلحة مثله مثل المطالب الأخرى، الديمقراطية والحرية...ألخ، من حيث هو عام ومعوم وقد يعبر عن مضامين متناقضة، فالإنتخابات التشريعية الأخيرة في سورية على سبيل المثال كانت خطوة سياسية، ولكنها خطوة باتجاه تعزيز مواقع قوى الفساد في جهاز المجتمع وقوى المال بالمعنى السياسي في ظل هذا النظام الانتخابي القائم الذي أصبح في هذه الظروف يحمل ملامح لا تقل رجعية عن أي احتمالات ثورة مضادة أخرى..

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن امكانية عقد حوار بين من يعتبرون فرقاء الأزمة في سورية، برعاية المبعوث العربي الدولي كوفي عنان، ويأتي هذا الحوار في ظل وضع دولي جديد تلعب فيه دول البريكس دوراً جديدا على المستوى الدولي، بدأ هذا الدور خطواته بالفيتو الروسي-الصيني الأول ضد التدخل العسكري في سورية، وبترجمة هذا الفيتو فعلياً على الأرض، ويمكن وصف الوضع الدولي الجديد بأنه يعكس في المرحلة الراهنة حالة توازن محصلته صفر بين المحور الأمريكي الأوروبي من جهة، وبين دول بريكس من جهة أخرى، لذا فإن أول سؤال يتبادر إلى الأذهان هو ما الذي يمكن أن يقدمه الحوار في ظل توازن صفري على المستوى الدولي؟؟

أكثر شيء يمكن توقعه من الحوار، ومن أية عملية سياسية تنتج عنه، هو أنه سيعلّب الأزمة في سورية عند حدودها الحالية، مترجماً بذلك الواقع الدولي الجديد، وسيؤجل بذلك الحل الحقيقي في سورية إلى حين اختلال توازن القوى الدولي من جديد لمصلحة أحد الطرفين، وهذا ما تسعى إليه الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال تكثيف جهودها صوب روسيا- الجائزة الكبرى، ومحاولة تفجير الوضع هناك لمصلحتها..

وإذا تفاءلنا قليلاً وأخذنا بعين الاعتبار تسارع تعقد الأزمات السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوربي، وإذا نجحت مطالب القوى الوطنية والحركة الشعبية في سورية بأن يكون الحوار علني وعلى شاشات التلفزة في مراحله الأخيرة، عندها يمكن أن تكون نتائج الحوار عنصراً من عناصر حل الأزمة على المستوى الداخلي، كونه في هذه الحالة سيكشف عن الوجوه السياسية الحقيقية للمتحاورين، ويضيء للحركة الشعبية بعض الجوانب التي قد تساعدها على التحول إلى حركة سياسية جديدة..

 إن هذا الوضع الدولي الجديد لا يعني بأية حال من الأحوال أنه لايمكن القيام بأي خطوة باتجاه الحل بانتظار انفراج الوضع الدولي من جديد، بل من الضروري القيام بخطوات كثيرة لتخفيف التكلفة والخسائر على مستوى البلاد والعباد، وعلى رأس تلك الخطوات إطلاق حوار جدي وحقيقي مع الحركة الشعبية، ومحاسبة رموز الفساد الكبير، وإطلاق سراح المعتقلين، والانفتاح على الشعب من خلال حل سياسي حقيقي أول ما يبدأ بتغيير النظام الانتخابي الحالي لفتح المجال أمام الحركة الشعبية والقوى السياسية الجديدة للمشاركة بالعملية السياسية وانجاز التغيير السلمي والحقيقي..