الكرامة الوطنية وسقف الحريات
القضية الوطنية بعرف الشعوب الحرة لها جوهر محدد هو الاستقلال عن قوى الاستغلال والاستعمار من الخارج، والإطاحة بأدواتها في الداخل. ولا يمكن أن يكون أي استقلال وطني لبلد ما ناجزاً وحقيقياً إلا إذا كان يضع الأولوية لمصلحة أغلبية شعبه، فأغلال الاستبداد والاستعباد بأشكالها القديمة منها والحديثة،
مفصلة قبل كل شيء لتقييد حريات الشعوب واستلاب حقوقها، ولا يمكن عملياً تحرر أي شعب دون إمساكه بزمام السلطة في بلده، أي دون أن تكون إدارة وطنه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً خاضعة لسيادته ولمصلحته، وهذه هي ديمقراطية الشعوب الحرّة، التي لا يمكن فصلها بهذا المعنى عن جوهر القضية الوطنية.
لدينا إذاً معيار واضح للحكم على مدى ديمقراطية أي طرف سياسي، ومعرفة فيما إذا كانت حقيقية شعبية، أم مزيفة برجوازية، من خلال موقفه من الناس، بجانبيه النظري والعملي. فمن الناحية النظرية نبحث عن عناصر الديمقراطية في الرؤية والخطاب السياسي. إنّ الرؤية السياسية لقوى الديمقراطية الشعبية، تنطلق من النظر إلى الجماهير على أنّهم بشر لهم حاجاتهم الإنسانية التي يجب أن تحترم، ولا تنقصهم القدرات الجسدية ولا العقلية على تلبية هذه الحاجات، وتطوير أنفسهم وتحقيق إنسانيتهم والنهوض بحضارتهم والارتقاء بأوطانهم، ولذلك لا يجب فقط الثقة بهم وبقدراتهم، بل والعمل مع هذه الجماهير وبينها على تنمية قواها وتطويرها لتستطيع إزالة العوائق التي تعترضها، وكسر القيود التي تكبّلها، وهكذا فإنّ هذه الرؤية لا تستقيم دون تكاملها مع الجانب العملي للديمقراطية عبر ممارسة النضال السياسي في المجتمع من أجل تحقيق مصالح الجماهير، وعبر التوجّه إليها بخطاب سياسي صادق يحترمها ويتحاور مع عقلها فيحرّضها على ما فيه خيرها، ولا يتردد في الاختلاف معها وانتقاد أخطائها، والتصدي لأعدائها من فاسدين ومستبدّين.
بالموقف العملي من التغييرات السياسية التي تجري في سورية اليوم، لا يمكن أنْ تدّعي أية قوة أو جهة سياسية أنها ديمقراطية حقاً، دون أن تتخذ موقفها واضحاً من المشاريع الديمقراطية الوطنية المطروحة كمهام واجبة الإنجاز بعهدة جميع الوطنيين الشرفاء، ولعلّ أقرب هذه الاستحقاقات وأهمها في مجال الإصلاح السياسي اليوم، هو وضع قانون انتخابات جديد وعصري تكون فيه سورية دائرة واحدة ويعتمد مبدأ النسبية. سيكون النضال من أجل هذا القانون تجربة جديدة ومحكاً لفرز القوى السياسية والاجتماعية على أساس موقفها تجاهه، مثلما كانت انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، رغم مرارتها وما أضافته من خيبات وهموم على قلب الشعب، تجربة لتعرية أكثر لقوى الفساد والنهب والقمع، زادت عزلتها والاستياء الشعبي منها.
إنّ من ينظر إلى الناس بعدم ثقة، وعلى أنهم ‹‹رعاع›› يسهل تضليلهم وأنهم متهمون بخيانة الوطن حتى يثبتوا العكس، وأن إثباتهم هذا العكس هو أمر سهل وفي غاية السطحية والابتذال بحيث لا يكلفهم أكثر من بعض الصراخ والهتاف ببضع كلمات، والتزلّف للقادة والمسؤولين.. هذه النظرة المهينة إلى الناس، وخاصة في ظلّ الأزمة الحالية التي تعصف بالوطن، والتي نجد ترجمتها في كثير من خطابات وممارسات أجهزة دولتنا، والأحزاب السياسية التي ضحّت باستقلاليتها منذ اندمجت بهذا الجهاز وأصبحت عرضة لمفاسده، إنما تعكس حقيقتين خطيرتين، إحداهما هي أنّها تعبّر عن رؤية ومصالح طبقة الفساد الكبير وقوتها المتوغلة في أجهزة الدولة السورية، والثانية هي حقيقة الموقف الضعيف للقوى النظيفة داخل تلك الأجهزة نفسها، والتي إمّا أنها مستسلمة للقوى الأولى، أو أنها لا تملك الرؤية الواعية التي تجعلها تثق بالجماهير وبقدرتهم على التغيير، فتظل خائفة منهم، ومعزولة عن النزول إلى شوارعهم، ومحاورتهم، أو محاولة بناء الثقة معهم، وبالتالي فهي بموقفها السلبي هذا تساهم في تعميق الأزمة وترك مصيرها ومصير الوطن والشعب نهباً للأعداء.
إنّ صراخ المتشدقين باسم الوطنية وباسم الأمن القومي وهم يمارسون على أرض الواقع مصادرة حريات أبناء الشعب وتكميم أفواهه وإذلاله في لقمته وكرامته، يشكل جوقة متناغمة مع صراخ المتشدقين باسم الديمقراطية والحرية، وهم في الواقع يرفضون أي رأي يخالفهم، ويبيعون الوطن مقابل رسن ذهبي يجرّون منه كالدواب وتمسكه القبضة الأمريكية-الصهيونية.
إنّ الوطن السوري اليوم بأمسّ الحاجة لأعلى درجات الحريات السياسية، وهي ليست ترفاً أو كماليات كما تراها بعض النظرات القاصرة، بل إنها على درجة عالية من الأهمية والخطورة لدرجة أنّ جميع مهامنا الوطنية في المجال السياسي والأمن القومي والاقتصادي وقضية تحرير أراضينا المحتلة لا يمكن إنجازها بعد اليوم إلا في ظلّ مستوى عالٍ من حرية سياسية للشعب ومن أجل الشعب.