إضراب وطني أم اضطراب «المعارضة»!
لاشك بأن الحركة الشعبية في سورية بحاجة إلى إبداع واستخدام مختلف أشكال النضال السلمي، وعليه يكون تكتيك الانتقال من شكل نضال سلمي لآخر خاضع لخدمة الهدف الرئيسي، ألا وهو الضغط من أجل إحداث تغييرات جدية وعميقة ببنية النظام السوري. وعلى أن تكون هذه الأدوات في خدمة شعارات وأهداف وطنية جامعة وقادرة على تعبئة كل المتضررين من البنية الاقتصادية الاجتماعية السياسية للنظام الحالي، وعليه لا بد أن تكون هذه الشعارات عابرة للثنائية الوهمية الجديدة التي فرضت على الشعب السوري على نمط مؤيد/معارض أو منحبكجي/مندس.
لا يخفى على أحد أن الوضع بعيد عن هذه الصورة المثالية، إذ أن جزءاً من قوى المعارضة السورية المزكاة إعلاميا وخارجيا، تستمر باستثمارها لخطايا النظام، معتلية دماء الجماهير، مستخدمة تكتيكات وسياسات وشعارات تتناقض ومصالح الشعب السوري بالتغيير والحفاظ على وحدته. وخير مثال على ذلك هو دعوة كل من هيئة التنسيق والمجلس الوطني للإضراب والعصيان المدني.
فمن حيث التوقيت تأتي هذه الخطوة في سياق تعثر وانسداد أفق التدخل الخارجي العسكري المباشر في سورية إثر صلابة الموقف الروسي والصيني، وتصاعد التدخل العسكري غير المباشر عبر دعم مجموعات مسلحة تستهدف الجيش والمدنيين السوريين تحت يافطة ما يسمى «الجيش الحر»، بالإضافة إلى مراوحة أشكال الضغط الخارجي السياسية منها والاقتصادية مكانها، لا بل يمكن الحديث عن تسقيفها. في هذا السياق تشكل دعوة هيئة التنسيق والمجلس الوطني تعبيراّ جديدا عن اضطراب وخذلان وتأزم هذه القوى نتيجة مراوحة الضغط الخارجي مكانه، هذا الضغط الذي يشكل رافعتها الأساسية، إذ أن المتابع لتاريخ هذا الجزء من المعارضة السورية وتحديدا في العشر السنين الأخيرة، يلاحظ أن نشاطها يخضع لمنطق الفقاعة الاقتصادية، وهنا المحدد في انتفاخ وانفجار الفقاعة هو وتيرة وحجم الضغط الخارجي، كتعبير عن إفلاسهم الجماهيري وفقدانهم لوسائل الضغط الأخرى. هذا الاضطراب والتأزم عند بعض قوى المعارضة أخذ تعبيرات أخرى كاضطرار غليون إطلاق تصريحاته الخيانية حول الجولان والمقاومة والأنباء عن لقائه ايهود باراك، وتقديمه رؤيته للتدخل العسكري لهيلاري كلينتون، وأخيرا طلبه بشكل رسمي من أعضاء مجلس الأمن الدولي التدخل العسكري.
أما من حيث الغاية، فالإضراب هو وسيلة بخدمة هدف وليس الهدف بحد ذاته، وليس هناك من شك حول مشروعية هذه الوسيلة ،لكن التوقيت والهدف الذي وضعه أصحاب هذا الإضراب والذي هو إسقاط النظام في سورية يثير العديد من التساؤلات والانتقادات. إن هذا الشعار/الهدف قاسم ومشتت لقوى التغيير، ألا وهي الغالبية العظمى من الشعب السوري المتضررة من بنية النظام، وبذلك فان رافعي هذا الشعار يقدمون (عن وعي أو عن جهل) «خدمة العمر» لقوى الفساد والإفساد في النظام، بإزاحة جزء كبير من المتضررين منها عن الفعل المباشر ضدها، مما يؤخر عملية التغيير من ناحية ويهدد بحرف الصراع باتجاهات تشكل تهديدا لمستقبل سورية وهو ما نعيشه واقعا الآن.
بالإضافة إلى ذلك، لا يساور الشك عاقلاً حول قدرة هذا الإضراب على إسقاط النظام نتيجة ميزان القوى الداخلي الذي اثبت استقراره النسبي كإحدى مشتقات آليات وتكتيكات وشعارات الممارسة السياسية المسيطرة في هيئة التنسيق والمجلس «الوطني». الأنكى من ذلك أن حتى ما يسمى بالمجلس الوطني وهيئة التنسيق لا يوجد لديهما أي وهم حول قدرة هذا الإضراب على إسقاط النظام، وإلا للجأت إليه منذ البداية ولم تستجد التدخل الخارجي وتلعب بنيرانه، ولما أتت هذه الخطوة عشية انسداد أفق التدخل الخارجي المباشر.
إذاً، الإضراب ليس سوى تعبير عن حالة انتظارية من قبل هذه القوى التي أتاها الخذلان من الخارج، انتظارها لتعديل ما بمواقف وممارسات القوى الكبرى (تحديدا روسيا والصين)، يؤدي لعودة زخم التدخل الخارجي بكل أشكاله، كأداتها الوحيدة لتعديل ميزان القوى الداخلي. بالمقابل فان طرح تكتيكات سياسية مع المعرفة المسبقة بعدم قدرتها على تحقيق أهدافها ليس سوى تعبير عن انتهازية هذه القوى السياسية التي تدفع جزءاً من الشعب السوري لتبني خطوات محكومة بالفشل وتتركه وحيدا ليتحمل الضرائب دماّ ومعيشةّ وانقساما. وتدفع بحالة الاستعصاء السياسي التي تطبع الحالة السورية نحو أقصاها.
أما على المستوى الميداني، فان الأخبار الواردة من عدة مناطق وتحديدا الأشد توترا، حول فرض الإضراب على جزء من المواطنين عنوة بالتهديد والقسر، يثير القلق بشكل جدي. وعلى الجهة الأخرى ، فان الصور التي تواردت عن تكسير أقفال محلات المشاركين بالإضراب ببعض المناطق من قبل الأجهزة الأمنية وتهويش بعض المنابر الإعلامية ضد المضربين من خلال دعوته لمعاقبتهم وفصلهم، يؤشر على استمرار قصر نظر القوى الأمنية بتوهمها إمكانية قمع مختلف أشكال الاحتجاجات .
إذاً، فهذا الإضراب من حيث توقيته وأهدافه، يشكل شاهدا أخر على الاستعصاء السوري، استعصاء مضمونه استهداف أطراف الأزمة السورية من معارضة ونظام بشكل أساسي غايات مستحيلة التحقيق (إسقاط النظام، استئصال الحركة الشعبية) في ضوء حجم الأزمة وميزان القوى الداخلي.
إن التاريخ حكم على قوى المعارضة الوطنية الجذرية أن تناضل على جبهات المعارضة، النظام والحركة الشعبية، مما يجعل مهمتها مركبة،على أمل النجاح بتشكيل أكبر وأفعل تحالف عابر لجملة الثنائيات الوهمية التي تكاثرت في الفترة الأخيرة، الأمر الكفيل بإخراج سورية من الأزمة الحالية، والقادر على تحقيق التغيير الجذري والشامل.