افتتاحية قاسيون 533: حكومة الوحدة الوطنية يجب ألاّ تتحول إلى فرصة ضائعة
دخل الاجتماع التشاوري للحوار الوطني (تموز 2011) تاريخ الأزمة الوطنية السورية بصفته نقطة علام هامة، من حيث كونه توجهاً نحو مخرج آمن للأزمة في ذلك الحين، وصدر عنه جملة توصيات لو نفذت في حينه لشكلت بداية المخرج الآمن.
إن سلوك المتشددين في كلا الطرفين؛ المعارضة التي تحت مختلف الحجج قاطعت الحوار وهاجمته، بعضها لأن لديها مشروعاً مختلفاً يرتبط بالخارج، والبعض الآخر بحكم السياسة الإنتظارية الانتهازية المبنية على أوهام غير معلنة بإمكانية إسقاط النظام بتدخل خارجي، وقوى النظام المتشددة التي كانت ترى أن الحل له شكل واحد هو الشكل الأمني فقط.. إن كلا الطرفين دفعا بالأزمة نحو التعمق أكثر فأكثر، والتعقد بظهور احتمال التدخل الخارجي، ولاحقاً بانتشار العمل المسلح بذريعة السلوك الأمني لقوى النظام المتشددة، ما رفع مستوى العنف وإراقة الدماء.
إن سلوك هذه القوى قد فوّت الفرصة التي ظهرت لحل الأزمة ابتداءً بالحوار، والذي كان المدخل له هو الاجتماع التشاوري وتوصياته.
الآن، بعد التطورات الناشئة وتعقيد المشهد السوري داخلياً وخارجياً، وبعد قطع الطريق على التدخل العسكري المباشر بعد الفيتو المزدوج الروسي- الصيني، وما تلاه من تطورات، والرد على هذا الموقف بسلوك وقرارات الجامعة العربية، ووصول التدخل الخارجي المعلن لطريق مسدود، تضيء فرصة جديدة لحل آمن، وهذه الفرصة عنوانها حكومة الوحدة الوطنية ذات الصلاحيات الواسعة، وهذه الفكرة تشق طريقها بسرعة في مختلف الأوساط الشعبية- السياسية، سواء أكانت في الموالاة أو في المعارضة.
إنها الفرصة والإمكانية الثانية للمخرج الآمن من الأزمة السورية التي لا يجوز تفويتها تحت أي ظرف كان، وبأية حجة كانت. ولكن يجب التنبه إلى أن عدم تفويت هذه الفرصة محدود بآجال زمنية ليست كبيرة بل هي أيام وأسابيع قليلة، فالقوى التي تعمل على تمهيد الطريق للتدخل الخارجي المعلن وغير المعلن، والتي تعمل على قطع الطريق إلى المخرج الآمن تنظم صفوفها، وتلجأ لأدوات وأساليب وطرق جديدة كان آخرها تفجيرات دمشق في 23/12/2011، ومن شأن التأخير إعطاء الفرصة لهذه القوى لتنفيذ مآربها.
إن حكومة الوحدة الوطنية بما تعنيه من حيث تشكيلها من القوى الوطنية في البلاد؛ في النظام والمعارضة والحركة الشعبية، وبما تعنيه من مهمات موضوعة أمامها، يمكن أن تأخذ زمام المبادرة في التعاطي مع الأزمة من يد القوى المتشددة والانتظارية (والتي بسلوكها عقدت الوضع)، ودفع الأمور باتجاه الحل.
إن أمام هذه الحكومة ملفات معقدة تحتاج لحلول سريعة تسد كل الثغرات التي ينفذ منها المتشددون من كل شاكلة ولون، ويتخذون منها ذريعة لتمرير سياساتهم وتبرير سلوكهم.
أولها: السير نحو المصالحة الوطنية ورأب الصدع والتشققات التي لحقت بالوحدة الوطنية من خلال عمليات الشحن الطائفي، التي كان المقصود منها الوصول إلى الاقتتال الطائفي، وهو ما يقتضي محاسبة كل مرتكبي أعمال القتل والعنف، وكل من ساهم بإراقة الدم السوري من أي طرف كان، ومعالجة ملف المعتقلين على خلفية الأحداث وإطلاق سراحهم، ومعالجة ملف المفقودين سواء على خلفية الأزمة الحالية أو نتيجة أحداث سابقة جرى التأخر في حلها ومعالجتها، والتعويض على جميع المتضررين نتيجة الأزمة الحالية سواء أهالي الضحايا أو المفقودين وغيرهم من المتضررين مادياً.
ثانيها: محاسبة الحكومات السابقة على سلوكها والأضرار التي ألحقتها بالاقتصاد الوطني والشعب السوري وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية و(إصلاحاتها) التخريبية، ودفع البلاد باتجاه سياسات اقتصادية اجتماعية تؤمن أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نسب نمو، ووقف المغامرة الاقتصادية الليبرالية التي جرى دفع البلاد إليها.
ثالثها: السير نحو بناء نظام سياسي جديد يؤمن أعلى مستوى من الحريات السياسية بما يضمن تطور الحركة الشعبية السليم ونشوء قواها السياسية الوطنية المعبرة عنها، والسير نحو التعددية السياسية عبر دستور جديد ومنظومة قانونية تؤمن نشوء وتطور حياة سياسية، يجري من خلالها تعبير دقيق عن مصالح الشعب والوطن.
إن كل ذلك ينبغي أن يترافق بحوار وطني حقيقي ترعاه هذه الحكومة، وتـحضّر له وتنفذ ما يتوصل إليه.
إن حكومة الوحدة الوطنية ذات الصلاحيات الواسعة يجب أن تتحول إلى واقع حقيقي بما من شأنه أن يؤدي بالسير بالبلاد نحو المخرج الذي طال البحث عنه، وهذه مسؤولية جميع القوى في البلاد، سواء أكانت في النظام أو في المعارضة الوطنية.
إن تفويت هذه الفرصة وتحويلها إلى مجرد فرصة ضائعة أخرى، من شأنه أن يؤدي بالبلاد إلى مزيد من تعقيد الأزمة بكل ما سينجم عن ذلك من أخطار، وخاصة رفع كلفة الخروج الآمن من الأزمة، كما أنه سيحدد مصير القوى المسؤولة عن تفويت هذه الفرصة ومستقبلها اللاحق، وسيقرر وجودها أو عدم وجودها في الفضاء السياسي القادم الذي يتشكل حالياً.