جنيف2.. التحوّل من العسكرة إلى السياسة
لعبت وسائل الإعلام المحلي والخارجي خلال فترة ما حول انعقاد مؤتمر «جنيف2» دوراً سلبياً في خلق صورة سطحية ومشوَّهة لحقيقة المؤتمر ومعناه السياسي. فغاب عن بثها تغطية جوهر انعقاده بحد ذاته، بوصفه واحداً من عديد، وجزءاً من مجموع الترجمات الضرورية المستحَقّة سياسياً، ولو متأخرة، عن «التوازن» المؤقت الاقتصادي، الاستراتيجي في مضمونه، والعسكري-السياسي في شكله بين جبهتين دوليتين: البريكس (27%)، والولايات المتحدة الأمريكية (17%) من الناتج الاقتصادي العالمي حالياً.
المعسكر الأمريكي الذي يسعى إلى الحفاظ على المكانة السابقة للولايات المتحدة الأمريكية ودورها كشرطي للعالم، وعلى الدولار الأمريكي ومنظومة النهب الإمبريالية بنسختها النيوليبرالية المرتبطة به، لم يعد يستطيع بالوسائل الاقتصادية تغطية تخلّفه الإنتاجي عن إسهام البريكس في الاقتصاد العالمي. لذلك لا خيار أمامه سوى استخدام وسائله العسكرية؛ من الترسانة الحربية الأمريكية والناتو وإرهاب القاعدة، وعطالته السياسية؛ دور أمريكا وحلفائها في الأمم المتحدة، والأنظمة السياسية التابعة لها، في الغرب الأوروبي، والخليج العربي وتركيا وإسرائيل. ولكن العجلة الأمريكية سياسياً بلغت من التخامد حدّ الشلل والعجز عن تحقيق أهدافها عبر التدخل الخارجي المباشر في سورية، على غرار آخر ما داسَته في ليبيا والعراق ويوغسلافيا. إذ صُفع وجهها في «مجلس الأمن» ثلاث مرات بين كفّي البريكس الثقيلين (روسيا والصين)، فلم يبقَ لها سوى التدخل العسكري غير المباشر عبر التنظيمات الإرهابية المموهة إيديولوجياً بعباءة «إسلاموية». وكان هذا خيار الجناح الفاشي في الإدارة الأمريكية مقابل الجناح العقلاني الذي يجد نفسه مضطراً، من باب الحفاظ على الوجود، إلى تقديم التنازلات الضرورية واللازمة للتراجع السياسي والعسكري لإعادة التناسب مع القوة الاقتصادية الفعلية لأمريكا.
إنّ هذا الجناح الفاشي يلتقي في نهاية المطاف، وموضوعياً، مع تلك القوى الاجتماعية المنتمية إلى شرائح البرجوازية الكبرى الأكثر تطرفاً وشراسة في الحفاظ على المستويات الفلكية لفسادها ونهبها للاقتصادات الوطنية، والمتغلغلة في مفاصل السلطة كجزء من الأنظمة الحاكمة، هذا من جهة. كما وتجد بعض التجمعات المعارضة من جهة أخرى، مثل ائتلاف الدوحة، في المنظمات الفاشية والإرهابية، عبر السكوت عنها وتبرير إجرامها، معيناً لمسعاها إلى المشاركة في السلطة السياسية، حتى لو افترضنا أنّ هذا النوع من «المعارضة» أداة سياسية صنعها الجناح غير الفاشي في الإدارة الأمريكية.
إنّ هذين الطرفين المتشددين يسعيان إلى عرقلة التغيرات السياسية المعبرة عن موازين القوى الجديدة من الناحية الاقتصادية داخل عالم الإمبريالية المأزومة، أي المعبرة عن صعود قطب الشعوب وهبوط النظام الرأسمالي العالمي. ويسعيان إلى استنزاف المجتمعات والحركات الشعبية السلمية المناضلة من أجل التغيير الوطني الديمقراطي.
عبر هذه الرؤية فقط يمكن فهم الصراع الدولي المعاصر على نحو صحيح، وفهم مغزى العملية المعقدة وغير القصيرة التي مرت بها الأزمة السورية، وانتقالها من حراك شعبي سلمي إلى صراع مسلّح دامٍ ومدمّر. وبالمثل نتوقع أنّ العودة إلى الشكل السلمي للصراع هي أيضاً عملية معقدة وليست قصيرة، من مقاس أيام أو أسابيع، كما تصورها كثير من وسائل الإعلام، مشكلة وعياً خاطئاً عند الناس، بعض التشاؤم اللاموضوعي.
ما ينبغي فهمه هو أنّ الشكل السلمي لحلّ الأزمة السورية، أياً كانت تفاصيله ومضمونه، هو الشكل الضروري الوحيد والممكن، تناسباً مع حجم القوى العالمية والمحلية المناهضة للمعسكر الفاشي الجديد بمركزه الأمريكي وأدواته الإقليمية، والذي لا يصبّ استمرار الصراع المسلّح هنا إلا في مصلحته. لذلك فإنّ جميع الواهمين بجدوىً ما تُرجى من «حلّ» ناجز بقوة السلاح، إنما تقودهم أقدامهم، بغض النظر عن نواياهم واصطفافاتهم، إلى جحيم الفاشية! في الوقت نفسه ينبغي الابتعاد عن أية أوهام تقلل من شأن وقوة ذلك المعسكر «النيوفاشي» وقدرته على الضغط على الحلّ السياسي وشكله.. ولذلك يبقى التكتيك الصحيح للقوى الوطنية في هذه المرحلة هو استمرار النضال من أجل إجراء ما يلزم من التعديلات على تمثيل الوفود إلى «جنيف2»، ولاسيما وفد المعارضة بحيث تشارك قوى المعارضة الداخلية والسلمية، الأمر الذي يسهّل ويسرّع الوصول إلى اتفاق على وقف التدخل الخارجي بجميع أشكاله، سواء العسكرية (على رأسها التنظيمات الفاشية التكفيرية المتعددة التسميات)، أو السياسية (من فرض نتائج مسبقة للعملية السياسية على السوريين). في حين أنّ المطلوب من المؤتمر في هذا الصدد، إضافة إلى وقف الإرهاب والعنف، هو فقط إطلاق عملية سياسية حقيقية، وترك التفاصيل الداخلية للحوار السوري الداخلي، وحق الشعب السوري في تقرير مصيره. كما يجب على جميع الأطراف السورية، في النظام والمعارضات، الكفّ نهائياً عن منطق الإقصاء والتفرّد والهروب من تحمّل المسؤولية ومن تقديم التنازلات الضرورية المتبادلة، الأمر الذي يمارسونه أحياناً من خلال تشبّثهم بأوهام «الانتصار العسكري» لطرف منهم على الآخر، أو عبر تضييع وقت ودماء الشعب السوري بمحاولات إحياء فرصٍ ضيّعوها لـ «حوار داخلي» لا يستطيع موضوعياً أن يغني عن «جنيف2» في تحقيق مهمّة إيقاف التدخّل الخارجي في الأزمة المدوَّلة.