نُعاة جنيف: صفقة «سياسية».. لا حلاً شاملاً!
يسعى الأمريكيون جهدهم، عبر ائتلاف الدوحة وأدواتهم الأخرى، لتحويل «جنيف2» من فاتحةٍ لحلٍ سياسيٍ حقيقيٍ يؤمن خروجاً مستداماً من الأزمة، إلى «مساومة دولية» يضمنون فيها «حصتهم» مسبقاً. ويكمن في عمق هذا السعي المحموم، خوف الأمريكيين من تراجعهم المستمر الذي إن أمّن لهم شيئاً اليوم فلن يؤمنه لهم لاحقاً، يضاف إلى ذلك أن السوريين إذا ما أمسكوا زمام الحل السياسي بشكل فعلي فإنّهم لن يدعوا لواشنطن موطئ قدمٍ في سورية المستقبل..
مع تبلّور المؤشّرات الكافية على انسداد الأفق أمام أي حلّ عسكري للأزمة السورية، بدأت الدول الغربية والأطراف المتشدّدة في الأزمة السورية، المعارضة الموالية، بالانعطاف تباعاً نحو فكرة أن الحلّ في سورية سيكون سياسياً. في المقابل، كانت أجزاء من المعارضة الوطنية السورية، ومن الحركة الشعبية السلميّة، قد حدّدت مطلبها منذ بداية الأحداث في سوريّة، باللجوء إلى الحل السياسي في مواجهة «الحل الأمني» لبعض الأجهزة في الدولة في مواجهة الحركة الشعبية السلمية، ولاحقاً في مواجهة العنف والعنف المضاد، الذي بدأ بالتشكل على أطراف الحركة الشعبية السلمية، بدعم غربي- تركي- خليجي واضح. أما دولياً، فكانت الأسبقية في الدعوة للحل السياسي للدول التي استخدمت حق النقض «الفيتو» ضدّ مشروع قرار التدخّل العسكري الخارجي في سورية، ومن ورائها باقي بلدان مجموعة «البريكس».
ومن خلال محطّة «جنيف1»، في حزيران 2012، لقيت فكرة الحل السياسي إجماعاً، من حيث المبدأ، وانتقلت الأزمة إلى مستوى جديد، وهو وجوب صياغة الحل السياسي للأزمة وتنفيذه. إلا أنّ تموضعات واصطفافات المواقف قبل التوافق لم تتغيّر، فلم تختلف الغاية التي هي البرنامج، مع تغير الأداة من عسكرية إلى سياسية.
ومع اقتراب موعد انعقاد جنيف الثاني كثّفت القوى السياسية الإعلامية الغربية، وأدواتها في المنطقة، العمل على تصوير الحل السياسي على أنه اتفاق سيستغرق زمنياً جولة أو جولتين، وينهي الصراع فوراً، ورتّبت أمريكا وفداً من ائتلاف الدوحة حمل معه مهمة إفشال جولات المؤتمر، وأقصت المعارضة الوطنية، لـ«تنعي» جنيف بعد «الفشل الضروري» الذي أعدته في الجولتين، ثم سارعت إلى السير في «جنازته». وترافق ذلك مع تصعيد سياسي أنبأ بدوره عن تصعيد عسكري قد تحمله الأيام القادمة. ردّدت بعض أوساط النظام المتشدّدة الصدّى، مؤكّدة فشل جنيف، وغياب شروط نجاحه. ثم بدأ نعاة جنيف بعدها بمحاولة تحمية الأجواء والنفوس، وشد عصب الأوساط الموالية والمعارضة، لإفقادها ما تبقّى لديها من أمل في حل سياسي يخرج البلاد من أزمتها، من خلال طمس العديد من الحقائق والخلط المقصود بين المفاهيم. ولابدّ هنا من توضيح بعض النقاط:
إن مؤتمر جنيف الثاني هو مدخل ضروري للحل السياسي، وليس بديلاً عنه. مهمته تأمين شروط الحل، الذي سيتحول بعده إلى حوار داخلي. بالتالي فإن السعي لإفشال جولاته هو محاولة لإيصاد الباب بوجه الحل السياسي، وليس دليلاً على فشله.
بعد الولوج إلى الحل السياسي، من مدخل «جنيف2»، سيكون موضوع الحل هو تغيير البنية السياسية القائمة في البلاد، التي أنتجت وتعيد إنتاج الأزمة، بمشاركة كل السوريين. أمّا الأمريكيون- من خلال ائتلاف الدوحة- وقوى الفساد الكبير فيطمحون من خلال «جنيف2» إلى إبرام صفقة سياسية دولية يجري بموجبها تغيير وجوه البنية القائمة دون تغييرها.
يهدف الأمريكيون من وراء مثل هكذا صفقة إلى الحفاظ على صواعق تفجير الأزمة قائمة، مع وجود ممثلين لمصالحها من ائتلاف الدوحة، ليبقى «الملف السوري»، مادة مفتوحة لمساومة الأطراف الدولية الأخرى. أما قوى الفساد الكبير فتهدف إلى الحفاظ على مواقعها، من خلال هذا العرض الأمريكي.
تبذل القوى الدولية الصديقة للحل السياسي، جهوداً معاكسة للمسعى الأمريكي. يمكن تلمّس هذه المسألة برفض الخارجية الروسية الدعوة الأمريكية إلى مشاركة وفدين، أميركي وروسي، في جولات التفاوض بين وفدي النظام وائتلاف الدوحة، انسجاماً مع السياسة الروسية التي تؤكّد أنه لا ينبغي للأطراف الدولية الراعية أن تتجاوز دور الرعاية إلى التدخل.
تدرك المعارضة الوطنية السورية، التي جرى إقصاؤها من مؤتمر جنيف، أبعاد المساعي الأمريكية الرامية إلى الالتفاف على الحل السياسي، وإيصاد بابه، وحجم الكارثة الإنسانية المترتبة على ذلك، ما دفع ممثلين لها، بالدعوة إلى اقتحام باب الحل السياسي، الموصد أمريكياً، في جنيف، من خلال تشكيل وفد معارضة وطنية من الداخل ليذهب إلى جنيف، بدعوة أو بدونها، ليشارك بالمفاوضات.
إن الصفقة الأمريكية هي «سياسية»، ولكنها ليست حلّاً للأزمة السورية، بل تسوية مؤقتة ملغومة قابلة للانفجار، وهذا ما تسعى إليه أمريكا عبر وفدها، وفد ائتلاف الدوحة. أما الحل السياسي فهو الوصول إلى الحوار السوري- السوري، من خلال الإطار الدولي المتمثّل بجنيف2، حول شكل ومضمون البنية السياسية الجديدة.