في خندقٍ واحد: يا أهلاً بالمعارك!

في خندقٍ واحد: يا أهلاً بالمعارك!

خروجاً منها عن نمط التحليل السائد عند مجمل القوى السياسية المتعنتة، حتى الأمس القريب، بأوهامها حول إمكانية «إسقاط النظام» من جهة، أو «الحسم العسكري» من الضفة الأخرى، وحدها «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» من استطاعت أن تدرك جوهر الصراع والأزمة واحتمالات تطوره.

أدركت بالبصيرة، قبل البصر، أنه، ومهما طالت دوامة الفرز الوهمي في المجتمع، سيكون للمخرج السليم من الأزمة السورية طريقٌ يمرُّ حتماً بتحالفات وطنية، مرحلية في البداية استراتيجية في المحصلة، بين الوطنيين الذين عملت قوى النهب في الداخل والخارج، على قولبتهم داخل ثنائية الصراع الوهمي بين «موالٍ ـ معارض».
ضد البربرية وقوى الخارج
في غالبية المناطق السورية الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة، ترتفع اليوم حدة المعارك العسكرية ما بين بعض الفصائل الإسلامية المتطرفة، المعتمدة  في أساسها على مقاتلي الخارج، كـ «جبهة النصرة» و«داعش» (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وبعض الفصائل العسكرية المنضوية بأغلبيتها تحت مسمى «الجيش السوري الحر». وبالمناسبة، هذه المناوشات والخلافات ليست بالجديدة على الأرض، إلا أن من تفاجأ الآن ووقف مشدوهاً لهول الحدث هو من كان منفصماً عن حقيقة التركيبة العامة لمسلحي المعارضة، وهو من أصرَّ، حتى ربع الساعة الأخير، على وضع كل المسلحين قسراً في خانة «عصابات إرهابية مسلحة» أو «جبهة النصرة».
ما لا يثلج القلب في هذه المعارك التي تدور رحاها الآن في أماكن متعددة من سورية، هو أن «الجيش الحر» قد تعرَّض بكليّته لاعتداءات الفصائل الإسلامية، فلاقى نفسه مجبراً على خوض الصراع معها، قبل اكتمال عملية الفرز في صفوفه، ما سيجعل من سيناريو الانتصار الجزئي للفصائل الإسلامية، المنظمة والمتجانسة أكثر، سيناريو معقولاً على الأرض. ما سيفتح الباب للحديث عن دور القوى النظيفة في النظام السوري، وعن موقفها من إمكانية هذا الانتصار الجزئي الذي ستحققه الفصائل الإسلامية، في حال لم تكن القبضة المقابلة، المعادية للمسلحين القادمين من الخارج، قبضة صلبة وموحدة. الأهم من ذلك، هو أن الثوابت الوطنية لأفراد الجيش العربي السوري من جهة، والمسلحين السوريين ذوي المطالب المحقة  - وإن كانت أدواتهم خاطئة - من جهة أخرى، سوف تجعل من قضية توحيد البندقية ضد البربرية المدعومة من الغرب قضية حتمية، حيث بات السؤال اليوم: أيهما يسبق الآخر، معادلة الميدان والأرض أم معادلة التردد السياسي؟ ولمصلحة من أن يسبق الميدانُ السياسةَ، هذه المرة؟؟
ضد العدو.. في جميع مواقعه
لم تكن الأطروحات القائلة بضرورة توحيد البندقية بين الوطنيين من الطرفين أطروحات مثالية، إنما يكمن جوهر هذا التحليل في فهم دقيق لواقع الصراع في سورية، حيث رفضت هذه الأطروحات أن تمتثل لإرادة قوى الفساد في الطرفين الساعية إلى تقزيم الصراع، وحصره في جبهتي «الموالاة ـ المعارضة» اللتين لا تعبران عن شكل الصراع الحقيقي ما بين الناهبين والمنهوبين. فإذا كنا نشهد اليوم إرهاصات تحالف عسكري مستقبلي، بين المتضررين من نفوذ فصائل التشدد على الأرض، فسيفتح الباب حتماً للحديث عن تحالفات تضم هؤلاء المتضررين، لكن هذه المرة سياسياً وضد أعداء الداخل، قوى الفساد التي عملت منذ ما قبل الأزمة على خلق البيئة الحاضنة للتطرف عبر سياساتها الاقتصادية ـ الاجتماعية المجحفة بحق السواد الأعظم من السوريين.
من الآن، وحتى اكتمال ملامح هذه المعركة، سيراقب السوريون ردات فعل القوى السياسية على إرهاصات تحالف المنهوبين، وسوف يدركون، بالملموس والمباشر، جوهر العنتريات المعارضة لأي خروجٍ عن شكل الصراع التي عملت قوى التسلط في الطرفين على ترسيخه في المجتمع، فالقاعدة مستمرة: أي توحيد في صفوف الأكثرية المنهوبة، من شأنه أن يقصِّر من عمر الأقلية الناهبة المستمرة بقوة الخلافات الثانوية التي تلهي الأكثرية. فاستقرار الأقلية الناهبة اليوم في خطر لطالما بقيت تشير المستجدات إلى استمرار تدفق الوطنيين للتأهب في خندقٍ واحد.. يا أهلاً بالمعارك!