افتتاحية قاسيون 619 : «هجوم من الحركة»..!
منذ أن كان الجدال، داخلي الطابع في حينه، حول سبل الخروج من الأزمة السورية، يدور عن جدوى اعتماد إما «الحل الأمني» أو «الحوار»، وذلك مع بداية استعصاء الوضع في البلاد، وصولاً إلى الجدال الذي بات خارجي الطابع اليوم بعد عامين ونصف من النزيف والخراب حول اعتماد إما «الحل العسكري» أو «الحل السياسي»، .
مروراً بمثيله داخلياً في أواسط عمر الأزمة، كانت الولايات المتحدة تحاول دائماً ولا تزال إعادة الأمور إلى المربع الأول، أي إنجاز ما تريده في سورية من إضعاف وتفتيت وتغييب عن المشهد الإقليمي والدولي، على الطريقة الليبية.
وبهذا السياق لجأت واشنطن كما بات معروفاً لسبل التدخل غير المباشر بعدما اصطدمت بالفيتو المزدوج ثلاث مرات متتالية، ما دفع الأمور لترجيح كفة التوجه منطقياً لسبل الحل السياسي. ويبدو أنها مع اقتراب ذاك الاستحقاق أكثر، معبراً عنه بالتحضير لـ«جنيف2» عملت المؤسسة الأمريكية مؤخراً على توظيف «مسألة الكيماوي» لتحقيق انعطاف يسمح لها بالعودة للتلويح بالتصعيد والتدخل المباشر والعسكري، بهدف تحصيل نتائج مسبقة على المؤتمر الدولي المذكور، وربط ذلك ببقية الملفات الإقليمية قيد البحث وإعادة الترتيب بين القوى الدولية الآفلة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة ذاتها، والقوى الدولية الصاعدة، وفي مقدمتها روسيا الاتحادية، ومن بين تلك الملفات الملف النووي الإيراني، والصراع العربي الصهيوني، والدرع الصاروخي الأمريكي، وخطوط النفط والغاز، وحتى الملف النووي الكوري الديمقراطي.
ومن هنا جاءت المبادرة الروسية من وجهة نظر موسكو لتكون «هجوماً من الحركة» بغية سد الذرائع أمام واشنطن ولتلجم مرة وإلى الأبد المحاولات العدوانية الأمريكية تجاه سورية، ليبقى السؤال: هل يمكن أن تلجأ واشنطن لسيناريو مماثل في الوقت المتبقي قبل التوجه لجنيف- بوصفه ممراً إلزامياً دولياً واستحقاقاً داخلياً سورياً- بهدف تحصيل «مكاسب» أخرى؟
ربما ينتاب الأمريكيين هذا الأمر، غير أن الروس قالوا بوضوح إن «الكيماوي السوري» هو مقابل منع العدوان نهائياً، وغالبية السوريين يجدون أنه دون ذلك لا طائل من الموضوع كلياً، في حين أن وضع «الكيميائي السوري» تحت الرقابة الدولية أو حتى تفكيكه، وانضمام سورية إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة الكيمائية، ستضع في نهاية المطاف مسألة السلاح النووي الإسرائيلي على طاولة البحث، في الترتيبات اللاحقة للمنطقة، في ضوء ميزان القوى الدولي المتشكل والمذكور آنفاً، وفي ظل استعداد الدوائر الامبريالية وحتى الحركة الصهيونية لخفض اهتمامها بـ«إسرائيل»، على الأقل، بعدما تحولت منذ عام 2000 إلى عبء ومشروع خاسر.
وعليه، لا تجوز المقارنة اليوم بترسانات السلاح الموجودة لدى الكيان الصهيوني وأي من دول الطوق، أي المقارنة بالمعنى الإقليمي المباشر والضيق، وإنما على أساس التحولات في المشهد الدولي. فإذا كانت الحروب الثنائية في التاريخ القديم قراراً داخلياً أو محلياً، فهي ليست كذلك في العالم المعاصر، فهي تقوم بعد تنسيق إقليمي ودولي ما، في محاولة أحد الأطراف تثبيت وتثمير تحول ما في ميزان القوى الإقليمي، والدولي من خلفه، أو بالعكس. وبهذا المعنى فإن أي عمل عدواني أمريكي مباشر ضد سورية يبقى احتمالاً قائماً، ولكنه سيكون انتحارياً في ظل الوضع الدولي الراهن كونه يسير عكس التحولات في موازين القوى الآخذة بالتبلور.
إن منع العدوان الأمريكي على سورية إنما يعني اليوم أمراً واحداً هو عودة فتح الباب واسعاً أمام كل مفردات نقل الصراع في سورية من شكله العسكري إلى شكله السياسي تدريجياً، انطلاقاً من جنيف لخفض مستوى العنف ووقف أشكال التدخل غير المباشر عبر التمويل والتسليح وتأجيج الصراع، وصولاً إلى الحل السلمي والتغيير الشامل والجذري والعميق