البشرية ما زالت تعيش في ظل القوانين التي اكتشفها ماركس (2)

البشرية ما زالت تعيش في ظل القوانين التي اكتشفها ماركس (2)

أثبت أكثر من قرن ونصف منذ نشر كتاب «رأس المال» صحة نظريات ماركس حول الأزمات الاقتصادية. فالرأسمالية تُنتج الأزمات حتى وهي تُولّد الرخاء، فتنفجر بشكل انهيار اقتصادي أو حرب، ممّا يُؤدي إلى ثورات اجتماعية جديدة ودورة اقتصادية جديدة. وتمر هذه الدورة التاريخية من «الازدهار إلى الأزمة» بخمس مراحل، بحسب يو جيانغ من مركز البحوث التنموية في مجلس الدولة الصيني.

يو جيانغ
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

في المرحلة الأولى، تؤدّي الثورات الاجتماعية والتكنولوجيّة إلى قفزة في الإنتاجية. ولا يكون السوق مشبعاً بعد، وتكون مساحات شاسعة من الأراضي والعمالة والموارد الطبيعية عاطلة. ويكون رأس المال رابحاً بمجرّد دخوله السوق.
في المرحلة الثانية، تبدأ بالظهور بشكل واضح تأثيرات قانون انخفاض الربحية مع تراكم رأس المال. تشتد المنافسة وتؤدي لفائض في القدرة الإنتاجية وفائض في رأس المال. يزداد الفقر النسبي للبروليتاريا، ويصبح الطلب الفعّال غير كافٍ، وتلوح أزمة اقتصادية في الأفق.
في المرحلة الثالثة، تتبنّى الدول الرأسمالية تدابير مختلفة لتأخير تجلّيات ميل معدل الربح إلى الانخفاض. وتشمل هذه التدابير:
1- تشديد استغلال العمال؛ وهو الأسلوب الأكثر مباشرة، ويشمل قمع النقابات والأجور، وتقليص الضمان الاجتماعي والرعاية الاجتماعية. على المدى القصير وفي الشركات الفردية، تُسهم هذه الإجراءات في خفض تكاليف العمالة، وتسمح لرأس المال بتوليد أرباح أكبر. أمّا من منظور المجتمع ككل، تُفاقم هذه الإجراءات الاستقطاب، وتُفاقم فائض القدرة الإنتاجية ونقص الطلب.

2- تحرير القطاع المالي وتشجيع «الابتكار المالي». فعندما يواجه الاقتصاد الحقيقي صعوبات، تتدفق رؤوس أموال طائلة إلى القطاع المالي وتنمو عبر امتصاص الأرباح منه. وقد شهد القطاع المالي توسعاً مفرطاً قبل الكساد العظيم عام 1929 والأزمة المالية العالمية عام 2008. كما خلق هذا التوسع المفرط للقطاع المالي وهماً بأن قطاع الخدمات (وخاصةً القطاع المالي) رمزٌ للارتقاء الصناعي. يُشكل التوسع المفرط للقطاع المالي حلقةً تزداد ابتعاداً عن الاقتصاد الحقيقي، مدعومةً بائتمان زائف. وأي تقلبات في الاقتصاد الحقيقي ستؤدي إلى انهيارٍ كارثي.

3- التوسع الخارجي. في بدايات الرأسمالية، تغلّبت الدول الأوروبية على نقص الموارد المحلية والعمالة والأسواق من خلال تجارة الرقيق والاستعمار. ومع الموجة العالمية لحركات التحرر الوطني من الاستعمار القديم في القرن العشرين، لجأت الدول الغربية إلى تصدير رأس المال والمنتوجات إلى دول العالم الثالث، لتأمين الموارد بتكلفة زهيدة من خلال الوسائل المالية والعسكرية. ورغم أن هذا ساعدها على التخفيف مؤقتاً من أزماتها، إلا أنّ عواقبه كانت اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب عالمياً.

4- التوسع النقدي أو التوسع بالديون. يتم خلق قوة إنفاق وهمية خلال فترات الركود الاقتصادي من خلال إصدار العملات والإنفاق الحكومي والفردي بالديون. وقد اعتُمدَت هذه الأساليب على نطاق واسع في الدول الغربية بعد ثمانينيات القرن العشرين، مما أدى في النهاية إلى تحولها إلى دول مثقلة بالديون، وتحوُّل مواطنيها إلى «برجوازية سلبية» مثقلة بديون باهظة، بل وممتدة مدى الحياة.

وفي هذه المرحلة الرابعة أيضاً، تندلع أزمة أو حرب شاملة. بمجرد استنفاد الوسائل المذكورة آنفاً، وقد تحدث أزمات اقتصادية وتُثير أزمات اجتماعية، تتجلّى في انكماشات اقتصادية، وانفجار فقاعات، وانكماش في الطلب، واستقطاب اجتماعي. إنّ الأساليب التي يستخدمها الرأسماليون لحماية أرباحهم لا تؤدي إلّا إلى تفاقم الأزمة في نهاية المطاف. قمع الأجور والرعاية الاجتماعية سيزيد من الاستقطاب الاجتماعي ويخفض القدرة الشرائية للعمال. وأَمْوَلة الاقتصاد (بما في ذلك في قطاع العقارات) لاستيعاب فائض القدرة الإنتاجية تُوسّع فقاعات الأصول، وتؤدي إلى ارتفاع أسعار الأصول فوق قيمتها الفعلية. وبما أن هذه الأسعار المتضخمة مدعومة فقط بالتوقّعات والمضاربات، فإن أي صدع
في سلسلة رأس المال سينعكس سلباً على النظام ويؤدي إلى انهيار هائل. إن إصدار الديون وخلق التضخم لإنقاذ الأسواق هما في الواقع محاولتان لإنقاذ الرأسماليين الأثرياء. يُفاقم التوسع الخارجي التوترات الدولية بين الدول الكبرى والانقسامات بين الشمال والجنوب العالميّين، ويدفع الدول النامية إلى شفا الثورة. لا تهدف أي من هذه الأساليب إلى الإنقاذ من الأزمة، بل إنها تسمح لآليات الرأسمالية، التي تقف باستمرار على شفا الأزمة، بالانطلاق أكثر فأكثر، مما يؤدي إلى الأزمة.
في المرحلة الخامسة، الإصلاحات الاجتماعية، أو الثورات الناتجة عن الأزمات والحروب، تُهيِّئ الظروف المواتية لازدهار جديد، محققةً «التدمير الخلّاق». كانت الحروب العالمية ذروة الأزمات الاقتصادية الرأسمالية. تُسبّب الأزمات والحروب انفجار الفقاعات، وانخفاض قيمة رأس المال. وفي دول أطراف النظام العالمي، غالباً ما تؤدي الأزمات الاقتصادية والحروب إلى ما وصفه لينين بـأنّ «الحرب تُسبب الثورة، والثورة تُوقف الحرب». وقد أشعلت الحربان العالميتان حركات استقلال وطني في المستعمرات.


هل أنقذت الرأسمالية نفسها؟


أثار البعض شكوكاً حول النظرية الماركسية، وقالوا إنّ تنبؤات ماركس بأن «الرأسمالية محكوم عليها بالزوال» لم تتحقق، وكذلك نظرية لينين حول «الرأسمالية في حالة انحطاط». فهل حقّاً أنقذت الرأسمالية نفسها؟
في الواقع، منذ الحرب العالمية الثانية، اعتمدت الدول الرأسمالية المتقدمة تدابير لتقييد امتيازات رأس المال، وتحسين العدالة الاجتماعية. مثلاً، أنشأت الدول المتقدمة شبكات أمان اجتماعي واسعة النطاق خفّفت من حدة الاستقطاب بين الأغنياء والفقراء. ومن خلال التنظيم الاقتصادي الكلّي وتدخّل الدولة، انخفضت تقلّبات الأزمات الاقتصادية الدورية. وهكذا زعم البعض بأن الاشتراكية التي تَصوَّرها ماركس قد ظهرت بالفعل في أوروبا، وأنّ الماركسية أصبحت «علاجاً» يمكن أن ينقذ الرأسمالية، وأنّ التناقضات الأساسية للرأسمالية يمكن حلُّها دون الحاجة إلى الثورة الاشتراكية والمُلكية العامة. لكن الأمور ليست بهذه البساطة.


اغتناء الشمال على حساب الجنوب


ينبغي التذكير بأنّ تحقيق «التحسينات» في المجتمعات الرأسمالية لم يتمّ سوى بفضل ظروف تاريخية فريدة، شملت الجوانب الآتية.
أولاً، تسببت الحرب العالمية الثانية في استنفاد الرأسمالية الغربية لفائض رأس المال الذي تراكم لديها على مدى سنوات طويلة، مما كبح جماح فقاعات الأصول وأضعف مجموعات رأس المال الاحتكارية السابقة، وأتاح للحكومات اتخاذ تدابير لتقييد رأس المال وتحسينات في العدالة الاجتماعية في بلدانها.

ثانياً، مارست المؤسسات المُنافِسة في الدول الاشتراكية (وخاصة الاتحاد السوفييتي) ضغوطاً خارجية على المجتمعات الرأسمالية. فأوَّل دولة اشتراكية في تاريخ البشرية وفّرت فرص عمل وأمناً شاملين، حيث تمتعت الطبقة العاملة السوفييتية بمكانة اجتماعية مرموقة. وتحت تهديد انتشار الثورة الاشتراكية إلى الغرب أجبرت المنافسة السوفييتية الدولَ الغربية على تطوير برامج للرعاية الاجتماعية. كما أدى دعم الدول الاشتراكية، كالاتحاد السوفييتي والصين، للحركات العمالية في الدول الرأسمالية والنضالات المناهضة للإمبريالية والاستعمار والهيمنة في المستعمرات إلى خلق ضغوط على الدول الرأسمالية. وما إنْ ضعفت هذه الضغوط الخارجية تدريجياً وتبدّدت بعد ثمانينيات القرن العشرين، حتى عادت امتيازات رأس المال في الدول الغربية للتوسُّع بسرعة. وعادت الأزمات المتعلقة بأسلوب الإنتاج الرأسمالي إلى الظهور. يُظهِر هذا أنّ التوازن المؤقّت بين رأس المال والعمل في الدول الغربية بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، والذي أطلق عليه بعض الباحثين «التسوية الكينزية»، لم يكن سوى ظاهرة عَرَضيّة نشأت في ظلّ ظروف محدَّدة، وليس دليلاً على أنّ المجتمعات الرأسمالية قادرة على حل تناقضاتها بمفردها.

وأخيراً، بُني نموذجُ الرفاه العالي لدى حفنة من الدول الرأسمالية المتقدّمة، معتاشاً على استغلال الدول النامية والفقيرة. فالرأسمالية لم تَقضِ على الأزمات، بل حوّلتها فحسب إلى الدول النامية. أنشأت حفنةٌ من الدول المتقدّمة «مجتمعات رفاه» محليّاً لتخفيف توتّراتها الاجتماعية من خلال نهب موارد الآخرين العالمية. وكان الثمن بقاء معظم الدول النامية غارقة في الفقر، بينما لم يُحَلّ الاستقطاب بين الدول المتقدمة والدول النامية إطلاقاً. دول الرفاه في الغرب ما كانت لتوجد أصلاً لولا «مصانع العالَم» مثل الصين.
باختصار، كان ماركس قد توقَّع المسار الرئيسيّ لتطور الرأسمالية على مدى القرنين الماضيين. وكما كشف في كتابه «رأس المال»، فإنّ قانونَ الانخفاضات الدورية في معدل الربح الناجمة عن أسلوب الإنتاج الرأسمالي لا يزال حقيقةً واقعةً حتى يومنا هذا.
منذ ثمانينيات القرن الماضي، واصلت الدول الغربية توسعها نحو الخارج، مشكلةً «ثلاثية» عالمية في تقسيم العمل الدّولي: أفريقيا وأمريكا اللاتينية توفّران المواد الخام؛ وشرق آسيا توفّر العمالة؛ وأوروبا والولايات المتحدة تعتمدان على الديون لتوسيع الاستهلاك. هذا إطارٌ نموذجيٌّ للنظام الرأسمالي العالمي. وقد أدى هذا التفاوت في تقسيم العمل العَالَمي إلى أزمة اقتصادية عالمية، والتي أثبتت مجدداً أن الرأسمالية وحدها لا تستطيع حل أزماتها بنفسها.

هذا يعني أيضاً أن تحديث دول الأطراف لا يتطلب فقط التخلُّص من الهياكل الاجتماعية التقليدية (كالإقطاعية)، كما فعلت الدول الغربية المتقدمة في الماضي، بل يتطلَّب أيضاً التغلب على عوائق الإمبريالية التي تعيق تحديثها؛ تَوجَّبَ عليها محاربةُ الإمبريالية والإقطاع معاً، وهو أمرٌ أصعب بكثير من عملية التحديث التي خاضتها أقلّيةٌ من الدول المتقدّمة. هذا هو مصدر شرعية الثورة الصينية. ولهذا السبب، فإنّ الثورة والتنمية وجهان لعملة واحدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1252