البشرية ما زالت تعيش في ظلّ القوانين التي اكتشفها ماركس (1)

البشرية ما زالت تعيش في ظلّ القوانين التي اكتشفها ماركس (1)

«الصين نجحت لأنّ الماركسية نجحت». هذا ما يشدّد عليه الدكتور يو جيانغ من مركز البحوث التنموية التابع لمجلس الدولة الصيني، وذلك في مقدمة كتابه «عالَمٌ جديد ممكن، تحديث الصين»، الصادر بالصينية عام 2020 بدعم من مبادرة الحزام والطريق، والذي صدرت ترجمته الإنكليزية عام 2023. فيما يلي نستعرض أبرز ما كتبه المؤلِّف في الفصل الثامن من كتابه تحت فقرة «البشرية ما زالت تعيش في ظلّ القوانين التي اكتشفها ماركس».

يو جيانغ
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان


لقد بنت الصين نظاماً اشتراكياً وحدَّثت نفسها في وقتٍ كان فيه النظام الرأسمالي العالمي قد تشكّل مسبقاً بالفعل. لكن لماذا لا يُمكن للمحاكاة العمياء لأنماط الإنتاج الرأسمالية أن تُحقِّق التحديث للصين؟ ماركس هو من كشف عن الإجابة. فالماركسية ليست مجرد أيديولوجية تدعو إلى الثورة، بل وهي نظرية تسمح بالتحليل الاقتصادي التجريبي. وهذا لا يعني إهمال كلّ ما يُجريه الاقتصاد الغربي من دراسات، فكثيرٌ منها في الحقيقة تتناول بالتفاصيل مشكلاتٍ محدَّدة في إطار الاتجاهات والنَّزعات الطويلة المدى التي سبق أن كشفت عنها الماركسية بالذات.


ميل معدل الربح إلى الانخفاض: «كعب آخيل» الرأسمالية


هل تستطيع الماركسية تفسير عالَم اليوم؟ نبدأ نقاشنا بالأزمة المالية العالمية عام 2008. كان أبرز تجلياتها تراجع ربحية الشركات، في حين أن «ميل معدل الربح إلى الانخفاض» [مع تزايد تعقيد التركيب العضوي لرأس المال] هو الإشكالية الجوهرية التي ناقشها الجزء الثالث من المجلد الثالث من كتاب «رأس المال». يستخدم ماركس وإنجلس هذا القانون لتفسير أسباب الأزمات الاقتصادية الدورية التي ستؤدي في النهاية إلى انهيار الرأسمالية.
يشير قانون «ميل معدل الربح إلى الانخفاض» إلى الميل التدريجي لمعدل الربح العام إلى الانخفاض (مع مرور الزمن) بينما يظل معدَّل القيمة الزائدة (درجة الاستغلال الرأسمالي للعمالة) دون تغيير. لماذا تنخفض أرباح الشركات على الرغم من نمو الإنتاجية؟ دعونا نحاول تقديم تفسير سريع.

ينقسم رأس المال إلى رأس مال ثابت ورأس مال متغير. يشير رأس المال الثابت إلى عوامل الإنتاج مثل المواد الخام والآلات والأدوات، والتي تحتفظ بقيمتها الأصلية أثناء عملية الإنتاج وتنقل قيمتها إلى المنتوج فقط. مثلاً، تتضمن قيمةُ السيارة قيمةَ رأس المال المادي مثل الفولاذ والمطاط. أمّا رأس المال المتغير فيشير إلى رأس المال المستخدم لشراء العمالة. إنّ العمل يخلق قيمةً تعوِّض قيمة قوة العمل (منها تُسدَّد الأجور)، ويخلق فوقها قيمة زائدة تؤدي إلى زيادة قيمة رأس المال (مصدر الأرباح).
الفرق الأساسي بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير هو أنّ رأس المال الثابت (المواد) لا يخلق قيمة جديدة، بل ينقل قيمته الخاصة إلى منتوجات، بينما يمكن لرأس المال المتغير (العمل) أن يخلق قيمة جديدة، تُعرف أيضاً باسم القيمة الزائدة. مع نمو الإنتاجية، يمكن للعامل تشغيل المزيد من الآلات وإنتاج المزيد من المنتوجات.

استناداً إلى القانون العام لميل معدل الربح إلى الانخفاض، يقترح ماركس وإنجلس نظريةً حول الدورة الاقتصادية في المجتمع الرأسمالي: سعي رأس المال وراء الربح يُوسّع نطاق الإنتاج بشكل متزايد. في الوقت نفسه، ولأن رأس المال يُسيطر على التوزيع، بينما تتراجع القدرة الشرائية للعمال (حيث تُصبح البروليتاريا مُفقَرة نسبياً)، تكسد المنتجات على الرفوف، ويتوقف دوران رأس المال. تُجبر الشركات على تعطيل قواها الإنتاجية، مما يؤدي إلى أزمة اقتصادية.


خمس طرق لتعويض انخفاض الربحية


إن «ميل معدل الربح إلى الانخفاض» ليس سوى إطار مرجعي. ففي الحياة الواقعية، تنخفض الأرباح في مسار متقلّب وليس في مسار مستقيم، نظراً لوجود اتجاهات تعويضية تعاكس انخفاض الربحية. يتم تحديد التغييرات الفعلية في الربحية من خلال القوة النسبية لهذين الاتجاهين المتعاكسين. ويطرح ماركس في رأس المال خمسة أنواع من «الاتجاهات التعويضية» التي قد يستخدمها الرأسماليون لإنقاذ الأرباح في مواجهة انخفاض الربحية.

الأول، هو زيادة استغلال العمال، بما في ذلك خفض أجورهم، وتمديد ساعات العمل، وزيادة كثافة العمل من أجل رفع القيمة الزائدة. كانت هذه هي الأساليب الرئيسية المستخدمة في المراحل الأولى للرأسمالية.
الثاني، هو خفض الأجور إلى ما دون قيمة قوة العمل، وهي وسيلة واضحة لحماية معدل الربح.
الثالث، هو تخفيض عناصر رأس المال الثابت، حيث سيتم إيقاف انخفاض الربحية إذا كانت الآلات وأشكال المعدات الأخرى أرخص.
الرابع، هو خلق فائض نسبي من السكان. يجادل ماركس بأنه كلما تطورت أنماط الإنتاج الرأسمالية، ازداد فائضها النسبي من السكان. والنتيجة هي انخفاض الأسعار ووجود أعداد كبيرة من العمال المتاحين أو العاطلين عن العمل. إن وجود فائض من العمالة يثني الشركات عن رفع الأجور، إذ يمكنها توظيف عمال دون الحاجة إلى ذلك. وفي هذا الصدد، أشار إنجلس في كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنكلترا» إلى أن أجور العمال في مانشستر آنذاك كانت منخفضة إلى مستوى لا يسمح إلا بالحد الأدنى من المعيشة.
العامل الخامس، هو التجارة الخارجية للوصول إلى أسواق أكبر، وعمالة ومواد خام أرخص، مما يمنع بدوره انخفاض معدل الربح.
أثبت التاريخ صحة تحليل ماركس. ستحدث بشكل دوري في المجتمعات الرأسمالية أزمات فائض القدرة الإنتاجية، وقلة الاستهلاك، وتراجع الربحية. وبمجرد ظهور هذه الأزمات، سيعوّض الرأسماليون والدول الرأسمالية
انخفاض معدل الربح بالوسائل المذكورة آنفاً. ومع ذلك، فإن هذه الوسائل لا يمكنها سوى تأخير هذه الأزمات ولن تقضي عليها. فبمجرد استنفاد هذه التدابير، سينهار الاقتصاد. ستقضي الأزمات الاقتصادية على فائض رأس المال من خلال شكل من أشكال «الإبداع المُزعزِع»، مما يُمهّد الطريق لنمو جديد. هذا هو «قانون الدورة التاريخية» للرأسمالية، الذي سنتحدث عن مراحلها في فقرة قادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1251