المضمون التقدّمي لـ«حق تقرير المصير» يتناقض مع أيّ تقسيمٍ يضرّ بالكادحين
يزخر التاريخ بأمثلة على محاولات فاشلة لأقاليم صغيرة أن تصبح كيانات سياسية مستقلة، خصوصاً بسبب انعدام الشروط الاقتصادية-السياسية الكافية لاستمرار دولة قابلة للحياة، فضلاً عن غياب القبول الدولي وفي كثير من الحالات كان إعلان انفصال أقاليم في كيانات سياسية مدفوعاً بتدخلات استعمارية وجزءاً من مخطّطات «فرِّقْ تَسُد». في هذا المقال نعدّد 15 حالة على سبيل الأمثلة لا الحصر، ثم نذكّر بأنّ أكثر فكر سياسيّ تقدّميةً وثوريةً وهو الفكر الماركسي-اللينيني وإذْ نادى بحرية الشعوب والأمم في تقرير مصيرها، لكنّه قيّد في الوقت نفسه تطبيق الانفصال السياسي بشروط اقتصادية-سياسية وطبقية محدَّدة، وليس كمبدأ اعتباطي مجرَّد.
بدايةً سنعرض بإيجاز الأمثلة التاريخية...
1- جمهورية كونوت (1789)
تقع في غرب إيرلندا، أُعلنت بدعم فرنسي خلال ثورة 1798 وفشلت بسبب غياب البنية الاقتصادية الكافية والإدارة الفعالة، وسقطت خلال أسابيع بعد تدخل القوات البريطانية.
2- جمهورية دوبرونفنيك (1815–1816)
مدينة ساحلية تقع حالياً في كرواتيا، حاولت المدينة إحياء «جمهورية راغوزا» بعد سقوط نابليون، لكنها فشلت بسبب ضعفها الاقتصادي النسبي، وعدم وجود حركة تجارية حقيقية أو دعم سياسي. وانتهى بها المطاف بأنّ ضُمّت إلى الإمبراطورية النمساوية.
3- جمهورية إنديان ستريم (1832–1835)
تقع على حدود الولايات المتحدة وكندا (نيوهامبشاير). أعلنت استقلالها بسبب نزاع حدودي، وفشلت إذْ كان عدد سكانها قليلاً جداً، وليس لديها اقتصاد متكامل. وتمّ ضمّها لاحقاً إلى ولاية نيوهامبشاير الأمريكية.
4- دولة إيكاريا الحرّة (1912–1913)
هي جزيرة يونانية في بحر إيجه. أعلنت استقلالها عن الدولة العثمانية، وفشلت لافتقارها إلى الموارد والبنية الأساسية للبقاء، عادت للانضمام إلى اليونان خلال خمسة أشهر فقط.
5- جمهورية مهاباد (1946)
دولة كردية تأسست بدعم سوفييتي مؤقّت في شمال إيران، لكن سرعان ما فشلت بلا دعم اقتصادي وسياسي بعد انسحاب السوفييت. فسُحقت خلال عام واحد.
6- جمهورية جزر الملوك الجنوبية (1950 – حتى الآن في المنفى)
أعلنت الاستقلال عن إندونيسيا، لكن عدد السكان القليل والجغرافيا المتفرقة وغياب المقومات الاقتصادية والدفاعية، عوامل تحول دون تحقيق استقلال سياسي، ولذلك لم يتبقَّ من فكرة الانفصال سوى «حكومة منفى» في هولندا.
7- كاشين (من الستينيّات – حتى الآن)
ولاية كاشين تقع في ميانمار، وفيها حركة تمرد تطالب بالحكم الذاتي، ولكن تضاريسها الوعرة، وانعدام الصناعات، واعتمادها على التهريب والأفيون، عوامل تحول دون قابليتها للحياة المستقلة سياسياً.
8- مملكة روانزرورو (1963–1982)
تقع في أوغندا، وأعلنت جماعة الباكونزو التي تقطنها الاستقلال عن أوغندا، وفشلت، فهي جغرافياً منطقة جبلية معزولة وفقيرة، ليس لديها اقتصاد فعّال مستقل ولا بنية تحتية كافية. أعيد دمجها لاحقاً ضمن أوغندا بعد مفاوضات.
9- جمهورية أنغويلا (1967–1969)
أعلنت الانفصال عن اتحاد سانت كيتس ونيفيس وأنغويلا، ولكن لم تستطع تمويل الحكومة، فطلبت تدخُّل بريطانيا لتفادي الانهيار، مما جعلها عمليّاً مستعمَرة بريطانية في نهاية المطاف.
10- بيافرا (1967–1970)
تقع في جنوب شرقي نيجيريا، أعلنت استقلالها تحت اسم «جمهورية بيافرا» بسبب التوترات العرقية والسياسية. وفشلت بسبب الحصار الاقتصادي الصارم من الحكومة النيجيرية. ولم يكن لدى الإقليم مقومات اقتصادية هامة، حيث اعتمد على النفط والسوق السوداء، ولا يطلّ جغرافياً على أيّة موانئ (حبيس جغرافياً)، ولم يحظ إعلانه الاستقلال باعترافٍ دولي. أدت أزمته الانفصالية إلى كارثة إنسانية ومجاعة وانتهت بهزيمة عسكرية.
11- جمهورية جزيرة الورود (1968)
كانت عبارة عن منصة صناعية في البحر الأدرياتيكي، بلا اقتصاد مستقل أو موارد. اعتبرتها إيطاليا تهديداً ضريبياً وسيادياً، فتعرضت المنصة البحرية للتدمير.
12- حركة بنغبومي (من السبعينيّات حتى التسعينيّات)
حركة هندوسية طالبت بإقامة وطن منفصل عن بنغلاديش، ولكن تعويلها على هذا التقسيم الديني فقط وغياب قاعدة جغرافية أو اقتصادية أو مصدر دعم جعل الفكرة تفشل وتختفي.
13- جزيرة سارك (من التسعينيّات حتى أوائل القرن 21)
هي من جزر القنال الإنكليزية. رفض بعض سكانها الإصلاحات البريطانية واقترحوا الاستقلال، ولكن فشلت الفكرة وتلاشت بهدوء، بسبب الاعتماد الكلّي للجزيرة في معيشتها على السياحة وعلى المملكة المتحدة.
14- أرض الصومال (منذ 1991 – وحتى الآن غير معترف بها)
أعلنت استقلالها بعد انهيار الصومال، وما زالت فاشلة بسبب غياب الاعتراف الدولي، واقتصادها يعتمد على المساعدات، ولا توجد أيّ استثمارات كبيرة بسبب انعدام الاستقرار السياسي وغموض مستقبلها.
15- أزواد (2012)
تقع شمالي مالي. أعلنها الطوارق كدولة مستقلة، ولكنها فشلت لنقص البنية التحتية المستقلة وغياب حكومة مركزية، وبسبب الصراعات بين الفصائل المسلحة، وغياب الاعتراف الدُّوليّ.
«حق تقرير المصير» لا يعني دعم الانفصال الضارّ بالكادحين
من المعروف أنّ المناضل والمنظّر الثوري فلاديمير لينين كتب بإسهاب عن «حق الأمم في تقرير مصيرها» (1914). لكن لينين لم يدعم الاستقلال القومي أو الانفصال السياسي في دولة دون قيد أو شرط، أو كمبدأ مجرَّد ومنفصل عن الواقع وعن السياق التاريخي الملموس لكلّ حالة من الحالات، بل فقط إذا توفّرت الظروف الواقعية المادية والسياسية التي تجعل هذا الاستقلال يخدم الطبقة العاملة والكادحين أو يفتح الأفق لتحسين أوضاعهم وليس لتمزيقهم وتدهور أوضاعهم أو جعلهم فريسة سهلة لنهب واستغلال القوى الاستعمارية أو الطبقية المعادية. ولينين هنا يفهم الطبقة العاملة بالمعنى الأممي العالمي للكلمة وليس الانحياز لعمّال بلد أو جزء من بلد على حساب البقية، ومع هذا ينسجم أيضاً المبدأ المعروف بأنه لا يمكن لأمّة أن تتمتع بالحرية وهي تضطهد أمّة أخرى.
وهكذا حذّر لينين بأنّ الاستقلال في كيان سياسي (دولة) ليس دون قيد أو شرط تاريخي وطبقي، فقال: «لكن هذا المطلب لا يعني أن الماركسيين سيدعمون كل الحركات القومية في كل الظروف. فالمصلحة العليا هي نضال البروليتاريا في جميع الأمم من أجل الاشتراكية». كما أنه يتطلب قابلية اقتصادية للحياة، حيث لا يمكن للإقليم أن يكون دولة قابلة للحياة إذا لم يمتلك القدرة على العمل الاقتصادي والإداري المستقل.
وهذا المبدأ ينسجم أيضاً مع مشروع الأطروحات حول المسألة القومية والاستعمارية (1920)، الذي وجّهه لينين إلى الأممية الشيوعية، حيث ورد فيه: «يجب على الشيوعيين دعم الحركات الثورية في المستعمرات فقط عندما تكون ثوريّة بحقّ، لا مجرَّد محاولات لإنشاء دولة قومية برجوازية جديدة».
وحتى ما يعرف أحياناً باسم «الحكم الذاتي» يعتمد بشكلٍ جوهري على البنية الاقتصادية. وسبق أن لفت لينين إلى ذلك باكراً في مؤلَّفه «المسألة القومية في برنامجنا» (1903): «الحكم الذاتي الإقليمي يَفترض وجود مستوى عالٍ من التطور السياسي والاقتصادي يسمح للإقليم بإدارة شؤونه الداخلية».
الاندماج الاقتصادي-السياسي ضدّ الانفصال
كان تمييز العامل الاقتصادي كجوهر هام في هذه المسالة واضحاً حتى منذ ملاحظات لينين النقدية حول المسألة القومية (1913)، عندما كتب بوضوح: «لا يمكن تقسيم المناطق الاقتصادية الكبرى إلى وحدات صغيرة ومعزولة دون إلحاق ضرر جسيم بالتنمية الاقتصادية... فالرأسمالية تقود حتمياً إلى تقارب الأمم لا إلى عزلها».
وهذا يعني أنه إذا كانت الاقتصادات مترابطة بعمق، بمراكز صناعية وشبكات نقل وتوزيع وتكامل اقتصادي، وبكلمة «سوق اقتصادية موحَّدة»، فهذا يجعل الانفصال غالباً غير قابل للحياة، في حين أنّ التفكك الاقتصادي على العكس يعزز التفكك السياسي ويُضعف كل الأطراف المعنية ويجهض أيّ جهود للإعمار والتنمية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1237