الانحطاط السيكولوجي المُلازم لوحشيّة الحروب الأهلية (2/2)

الانحطاط السيكولوجي المُلازم لوحشيّة الحروب الأهلية (2/2)

تخلق الحروب الأهلية بيئات مثالية لتطبيق المعايير المزدوجة – حيث يتم الحكم على أفعال متماثلة بشكلٍ مختلف حسب مَن يرتكبها. هذا التطبيق الانتقائي للمعايير الأخلاقية والقانونية يسمح لكل طرف بمحاولة شرعنة ممارسته للعنف بينما يدينُ أفعالَ الطرف الآخر المُماثِلة. يحدد بعض الباحثين شكلين رئيسيّين للانتقائية في القانون الجنائي الدولي لهما صلة بالحروب الأهلية: «الانتقائية الشخصية» (مَن تتم محاكمته؟) و«الانتقائية الخفية» (كيف تُبنى المعايير القانونية لصالح نتائج معينة؟). في الحروب الأهلية، نرى كلا الشكلين يعملان على مستوى الفصائل المتحاربة، حيث يطوِّرُ كلُّ جانبٍ أطراً قانونية وأخلاقية «مفصّلة على قياسه» بحيث تؤيّد حتماً «قضيّته» بينما تجرّم «قضيّة» الطرف الآخر.

إذا جرى التطبيق غير المتّسق للعدالة من قبل القضاء – كأن يحقِّق في بعض القضايا بينما يتجاهل أخرى بناءً على اعتبارات أو انحيازات سياسية – ستعمل كل من فصائل الحرب الأهلية على التغاضي عن انتهاكاتها الخاصة أو التقليل من شأنها. يمتد هذا التطبيق الانتقائي للمعايير إلى تصنيف الضحايا، حيث يعتبر كل جانب الوفيات المدنية التي يتسبب بها «أضراراً جانبية» بينما لا يضع تحت تصنيف ضحايا «جرائم حرب» أو ضحايا «إرهاب» سوى الخسائر المماثلة التي يتكبَّدها هو في صفوفه فقط.

تأطير الطوارئ وتعليق المعايير

تشتمل الحروب الأهلية بشكل متكرر على التذرّع بحالة «الطوارئ» أو «النَّفير» - أو أيّاً كان المصطلَح الذي يحمل المضمون نفسه - لتبرير تدابير استثنائية تختلف عن سياسات أوقات السِّلم. يخدم هذا التأطير للطوارئ عدة وظائف نفسية: فهو يخلق شعوراً بالتهديد الوجودي يتجاوز القيود الأخلاقية العادية، ويسمح بتعليق الحماية القانونية للطرف الأهلي الآخر المتصوَّر «عدواً» أو توسيع «العقاب الجماعي» تعسّفياً.

ترتبط إساءة استخدام حالة الطوارئ بما أسماه باندورا «التبرير الأخلاقي» – العملية التي يتم من خلالها جعل السلوك غير الأخلاقي مقبولاً شخصياً واجتماعياً من خلال تصويره على أنه يخدم أغراض جديرة بالاهتمام اجتماعياً أو أخلاقياً. في سياقات الحرب الأهلية، يصبح العنف الشديد مؤطَّراً على أنه ضروري لحماية الأمّة أو الشعب أو الدَّولة أو بعض الكيانات الأخرى ذات القيمة من تهديد وجودي.

التقييم غير المتكافئ للحياة البشرية

من الظواهر النفسية الأكثر انحيازاً وبعداً عن العدالة في الحروب الأهلية، التصنيف والتقييم غير المتكافئ للضحايا. يتجلى هذا بعدة طرق: مستويات مختلفة من الاهتمام الإعلامي بناءً على هوية الضحايا، والتطبيق غير المتكافئ للقانون الوطني أو الدولي على فظائع مماثلة، ووزن أخلاقي مختلف جوهرياً يُعطى للأرواح المفقودة على جانبي المتراس.

وسبق أن ذكرنا أمثلة عن ممارسة تمييز لغوي ينطوي على تمييز أخلاقي أعمق في كيفية تقييم الأرواح والكرامة، وخاصة عندما ترتبط مفردات لغوية معينة بشحنات تأويلية وأحكام قيميّة أخلاقية أو سياسية أو روحية ودينية معينة مثل: «شهيد»، و«قتيل»، و«ضحية»...

يرتبط هذا التقييم غير المتكافئ بما يسمى أحياناً «الاستبعاد الأخلاقي» – العملية التي يتم من خلالها تصنيف جماعات معينة خارج مجال تطبيق القيم الأخلاقية والقواعد واعتبارات الإنصاف. وبمجرد الاستبعاد الأخلاقي لمجموعة الـ«هُم»، يتوقف اعتبار العنف ضدهم مساوياً بأهميته وآلامِه ومآسيه للعنف ضد الـ«نحن».

دور المؤسسات في شرعنة العنف الأهلي

تلعب المؤسسات – وسائل الإعلام، والأنظمة القانونية، والمؤسسات الدينية، والهياكل السياسية والأمنية والعسكرية – دوراً حاسماً في تنظيم وتضخيم هذه الآليات النفسية. يمكن للتمثيل الإعلامي أن يتحدى أو يعزز السرديات المجردة من الإنسانية. يمكن للأنظمة القانونية أن تطبق المعايير الوطنية أو العالمية للعدالة بشكل انتقائي وتميزيّ في خرق لقاعدة العدالة في التساوي بالحقوق والواجبات بين من يفترض أنهم «مواطنون متساوون» في الوطن الواحد نفسه. ويمكن للمؤسسات إما أن تعظ بالمصالحة أو أن تقدّس العنف الأهلي وتبرّره.

تسهم المؤسسات القانونية في العدالة الانتقائية من خلال ما سمّاه باحثون مثل روبرت كراير «الانتقائية الخفية» - الطريقة التي يتم بها بناء المعايير القانونية لصالح نتائج معينة. في الحروب الأهلية، يتجلى ذلك في كيفية كتابة القوانين وتفسيرها وإنفاذها لصالح طرف على حساب آخر.

دور وسائل التواصل الاجتماعي

برزت وسائل التواصل الاجتماعي كمؤسسة قوية جديدة لنشر الخطاب المجرَّد من الإنسانية، ويزداد دورها خطورة بسبب كون الأكثر تحكماً بها هم في عالمنا اليوم الأطراف العالمية والمرتبطون بها الأكثر استفادة من إشعال الحروب الأهلية وتحديداً القوى الإمبريالية والصهيونية وعملاؤها. وجد البحث حول المحتوى في فيسبوك وتويتر أن تجريد الخصم من إنسانيته غالباً ما يحدث من خلال الخطاب التراكمي بدلاً من الإفصاحات الصريحة، مما يجعل من الصعب اكتشافه ومقاومته. يمكن لهذا «المحتوى الحدودي» أن يخلق جماعياً بيئة يبدو فيها العنف مبرراً دون أن يتجاوز أي منشور واحد خطوط الكراهية المعرّفة «خوارزميّاً».

وحتّى الخوارزميات التي تزعم شركات مثل ميتا أنّها مصمّمة «بنزاهة وحيادية» للحد من انتشار «خطاب الكراهية» والعنف وما إلى ذلك، لا يمكننا استبعاد أنّها تخضع للتلاعب تسهيلاً أو تشديداً بحسب الخطاب الذي من مصلحة القوى المسعِّرة للحرب الأهلية أن تروّجه. ولعلَّ بعضنا لاحظ من تجربته الشخصية بأنّ «الإبلاغات» و«الشكاوى» حول المحتوى المحرِّض على العنف الأهلي والطائفي، أو التبريري للاعتداءات «الإسرائيلية» على شعوب المنطقة، كثيراً ما تكون عديمة الجدوى ويأتي الردّ عليها من شركة ميتا بأنّ «المحتوى الذي أبلغت عنه لا ينتهك معاييرنا»! وذلك تحديداً عندما يكون هذا المحتوى يخدم هدفاً صهيونيّاً في منطقتنا مثل تسعير الاقتتال الأهلي في سورية، أو تبرير اعتداءات «إسرائيل» على بلداننا وشعوبنا.

كسر الحلقة: استراتيجيات لاستعادة الإنسانية

إذا كان تجريد الأطراف الأهلية بعضها لبعض من إنسانيتها والعمليات النفسية ذات الصلة تغذّي عنف الحرب الأهلية، فإن إعادة الإنسانية كاملة بشكل متبادل في عقول المواطنين تجاه بعضهم بعضاً، يجب اعتبارها وسيلة مركزية لحل النزاعات وبناء السلم الأهلي.

ونظراً لاستعمال اللغة وسيلةً لتجريد الآخر من إنسانيته في حالات التحريض على العنف الأهلي، فمن المفيد والضروري أن تبدأ إعادة الإنسانية عبر اللّغة أيضاً كأضعف الإيمان، على أن يستكمل القول بالفعل وإلّا فإنّ اكتشاف النفاق أو المراوغة لدى أي طرف قد يجدّد الحرب، وينطبق هذا المبدأ بالتساوي على جميع الأطراف في الصراعات الأهلية.

إعادة الكرامة الإنسانية تتطلب إنشاء أنماط جديدة من المشاركة المحترمة والكريمة بين أطراف الصراع، حيث يجب ألّا ننسى الظروف المادية الاقتصادية-الاجتماعية التي تفجّر بالأساس النزاع السياسي إلى المستوى العسكري، فينبغي العمل إذاً على الحلّ السياسي بالدرجة الأولى لضمان إخماد نيران الحرب الأهلية وتبريدها وإلّا ستظل قابلة للاشتعال مجدداً. يتوافق هذا مع نظرية الاتصال في علم النفس، التي تفترض أن التفاعلات الإيجابية بين أفراد المجموعة في ظل الظروف المناسبة يمكن أن تقلِّل من التحيُّز والصراع.

يؤكد عمل لويس روبرتو كاردوسو دي أوليفيرا حول «الحقوق الأخلاقية» على أهمية الاعتراف المتبادل والمعاملة الكريمة في حل النزاعات. ويجادل بأن تحويل مسار النزاع باتجاه التهدئة يتطلب ليس تسويات قانونية فقط، بل واستعادة الاحترام المتبادل والاعتبار بين الأطراف - وهي مهمة صعبة ولكنها أساسية في المجتمعات ما بعد الحرب الأهلية.

«الإنسان» مقابل «الوحش البشري»

الحروب الأهلية هي نوع من الحروب الأقلّ عقلانية من بين أنواع الحروب، وتتطلب أشكالاً قويّة من الانفصال الأخلاقي. وتعمل الظروف المادية القاسية وغسيل الأدمغة المبرمج لتسهيل الانقلاب على القدرات النفسية التي تسمح بالتعاطف والتراحم والتعاون البشري، فيسود بدلاً منها العنف المروِّع والقسوة الوحشية وأقصى درجات اغتراب الإنسان عن إنسانيّته وعن أخيه الإنسان، بالمعنى الماركسيّ العميق لمفهوم الاغتراب.

ما الحل؟

لا يكمن الحل في التظاهر بأن الإمكانيات المظلِمة للاقتتال الداخلي غير موجودة في المجتمع، لأنّ الحروب عموماً، ومنها الحرب الأهلية، تبقى إمكانيةً واقعية في المجتمع الطَّبقي وخاصة الرأسمالي، ولكن يمكن إنشاءُ ضمانات اجتماعية وسياسية ومؤسَّسية تجعل من الصعب تفعيلها. وهذا يتطلب اليقظة ضد كل ممارسات التجريد من الإنسانية ليس معنوياً ولفظياً فقط، بل ومادياً أيضاً (وبالأساس اقتصادياً)، فالفقر والبطالة والجوع والظلم والاستغلال في المجتمع تربةٌ خصبة لانفجار العنف والجريمة بما في ذلك الحروب الأهلية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236