مشاعة «ياكو» الصينية نموذجاً مُعاصِراً للتعاون كمجتمع لا كأُسَرٍ منعزلة
خصّصت مجلة «مونثلي ريفيو» عددها مطلع آب الجاري لمناقشات عن المشاعات تاريخياً وحاضراً في عدة بلدان في العالَم. إحدى المقالات كتبها الباحثان الصينيّان سيت تسووي ولاو كين تشي، تناولا فيها المشاعات الصينية، في أمثلةٍ ملموسة من أرض الواقع، حول تجارب اقتصاد القرى المُدارة من المنتجين مباشرةً بشكلٍ جماعيّ (مشاعيّ) في الصين، والتي ما تزال الكثير منها موجودة حتى الآن وتقوم بتطوير تجاربها بما يواكب التقدم العلمي والتكنولوجي والاعتبارات البيئية المعاصرة وتغيرات العلاقة بين الريف والمدينة. اخترنا من البحث المذكور تجربة مشاعة «ياكو» القرويّة المتميّزة في جنوبي الصين، حيث زارها الكاتبان في ربيع العام الجاري 2025.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
ابتداءً من خمسينيات القرن الماضي، لعب نظام «المشاعة الشعبية» أو «الكوميونة» دوراً هاماً في سعي الصين الجديدة نحو تأسيس قاعدتها الصناعية الضخمة وتطويرها، على الرغم من العقوبات الأمريكية والخلافات بين الصين والاتحاد السوفييتي.
في عام 1961، طُبِّقت لائحة عمل الكوميونات الشعبية الريفية، مُرسِّخةً بذلك نظامًا ثلاثي المستويات للملكية والمسؤولية هي: الكوميونة، وسَريِّة الإنتاج، وفريق الإنتاج. وكان الفريق هو الوحدة الأساسية. شارك أعضاء الكوميونة في أعمال الإنتاج الجماعي، وتقاضوا أجورًا تتناسب مع نظام لتحديد الأجور هو نظام «نقاط العمل» التي تمنح لهم بحسب ما يقدمونه من عمل.
كان بإمكان الأعضاء أيضًا زراعة قطعة أرض صغيرة لإنتاج الكفاف، وإدارة عدد صغير من المشاريع العائلية الجانبية. وسرعان ما زاد عدد الكوميونات الشعبية من نحو 24,000 إلى 74,000 نظرًا لتقليص حجم الكوميونة، كما سمح ذلك للفلاحين بالتمتع باستقلالية نسبية في استهلاك أسرهم.
في أوائل آذار 2025، زار الكاتبان مشاعة قرية ياكو، وهي تتميز بمناظر طبيعية فريدة، إذ تضم قرابة 113 هكتاراً من حقول الأرز، بالإضافة إلى 1333 هكتاراً من برك تربية الأسماك، وجميعها محاطة بالطرق السريعة الحديثة والمباني الشاهقة في المناطق الساحلية المتطورة للغاية في جنوبي الصين.
وبما أن الزيارة كانت خلال موسم الزراعة الربيعي، كانت الجرارات تحرث الحقول، وشتلات الأرز تنبت. ووسط العمل الآلي، كان الفلاحون يعملون معًا في الحقول. يقول الكاتبان: قرابة الساعة الحادية عشرة صباحًا، تحدّثنا مع مجموعة من النساء المسنات اللواتي انتهين من إزالة الأعشاب الضارة وتنظيف زوايا الحقول. كنّ ينظفن معاولهن ويغسلن أيديهن. أخبرننا أنهن ما زلن يمارسن نظام «نقاط العمل». كنّ يعملن من الثامنة صباحًا حتى الحادية عشرة صباحًا، ثم يتوقفن لتناول الغداء في المنزل، ثم يستأنفن العمل من الواحدة ظهرًا حتى الرابعة عصرًا. وفي أوقات الذروة، كنّ يحصلن على 80 نقطة عمل يوميًا.
تُحسب نقاط العمل في نهاية العام لتحديد قيمتها النَّقدية بناءً على دَخل فريق الإنتاج. قيل لنا إنّ كل نقطة عمل تعادل تقريبًا 12 يوانًا صينيًا [أيْ 1.67 دولار أمريكي تقريباً، وفق سعر صرف آذار 2025]. في السابق، عندما كانت هؤلاء النساء صغيرات السن، كنّ يعملن في المطاعم أو المصانع. أمّا الآن، فلا يزال بإمكانهن العمل في الأرض إذا رغبن في ذلك. تقبل البلدية أيَّ شخص يريد العمل، لذا فإن التوظيف مضمون. قالت إحدى النساء وعلى محيَّاها ترتسم ابتسامة فَخر: «عمري أكثر من ٦٠ عامًا، ولكن لا يوجد سنّ تقاعُد للفلاحة!». ثم ركبت دراجتها الكهربائية (السكوتر) واتجهت إلى منزلها على الطريق الريفي.
السكرتير الشيوعي الحافي القدَمين
لماذا قررت قرية ياكو التمسُّك بنظام المشاعات (الكوميونات)؟ أجاب العمّ مان، زعيم القرية المخضرم، على سؤالنا بصوتٍ حازمٍ، قائلاً: «أنا شيوعيّ». كان العم مان، واسمه الكامل «لو هانمان»، سكرتيرًا للحزب الشيوعي الصيني في قرية ياكو لمدة 37 عامًا، حتى عام 2011، عندما تقاعد عن عمر يناهز 73 عامًا. يُلقَّب بـ«سكرتير القرية حافي القدمين» لأنَّه كان يعمل دائمًا في الحقول حافي القدمين، وقد أصرَّ على حماية الزراعة من أجل الغذاء، وتمكَّنَ من الحصول على إذنٍ من السلطات لاستصلاح ما يعادل 2667 هكتاراً من أراضي الدلتا عام 2002 للزراعة. ويجادل بأنَّ الزراعة الجماعية (المشاعية) تحمي «الضعفاء» وتضمن الأمن الغذائي المحلّي.
منذ عام 1983، وفيما يبدو تماشياً مع اتجاه الانفتاح، اعتمدت الصين ما يسمى «نظام المسؤولية الأسرية»، الذي يمنح كل أسرة فلاحية الحق في استخدام الأراضي. وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية المتعاقد عليها بين الأسر في الصين أكثر من 100 مليون هكتار، تضم ما يقرب من 200 مليون أسرة فلّاحية. وقد استمرت الجولة الأولى من عقود الأراضي من عام 1983 إلى 1997، وبدأت الجولة الثانية في عام 1997 وتستمر حتى عام 2027. ووفقًا للمؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني المنعقد عام 2017، سيتم تمديد الجولة الثانية من عقود الأراضي لمدة ثلاثين عامًا أخرى، من عام 2027 إلى عام 2058.
عودةً إلى مثالنا في مشاعة ياكو القروية؛ عندما وصل الضغط لتطبيق نظام «المسؤولية الأسرية» إلى هذه القرية عام 1979، تشاور أهل القرية وتوصّلوا بقيادة العم مان إلى إجماع على عدم تقسيم استخدام الأراضي بين الأسر الفردية. وكان السبب عَمليًا؛ فمنذ أوائل ثمانينيّات القرن الماضي وحتى عام 2006 (عندما أُلغيت الرسوم الجمركية الزراعية رسميًّا)، كان على كلِّ عامل دفع ضريبة زراعية عَينيّة تقارب 600 كيلوغرام من الحبوب سنويًا، بالإضافة إلى اللحوم ومنتجات البيض وزيت الطعام. وتمثلت المشكلة العملية في وجود نقص حادّ في العمالة في القرية. ونظرًا لقرب قرية ياكو من هونغ كونغ وماكاو، فقد غادرها العديد من الشباب أو هاجروا للعمل أو ممارسة الأعمال التجارية أو إدارة المصانع. ومعظم مَن بقوا هم من كبار السن والنساء والأطفال. وهذا يعني أنه لو اعتمدتْ قرية ياكو نظام «المسؤولية الأسرية»، لكان من الصعب على الأسر التي لا تضمُّ أفرادًا شبابًا أقوياء دفعُ الرسوم الزراعية. في عام 1979، وبعد مناقشات، قرروا مواصلة الإنتاج الزراعي الجماعي من خلال نظام نقاط العمل. وهكذا نجحوا ليس في حل مشكلة الضرائب فحسب، بل وحافظوا أيضًا على الاكتفاء الذاتي لقريتهم من خلال الإنتاج الجماعي للحبوب. وحتى يومنا هذا، تُطلِقُ ياكو على نفسها اسم «كومونة قرية ياكو».
نظام مُعدَّل يحافظ على التكافل الاجتماعي والبيئة
الحل الذي اتبعوه هو تطبيق نظام «قرية واحدة، ونظامان»: حيث يمكن للشباب الأقوياء العمل في المدينة، بينما يشارك الباقون في الإنتاج الزراعي. تُنظِّمهم لجنة القرية في 13 فريق إنتاج، يزرعون الأرزّ بشكل جماعي ويوزعونه حسب عملهم. ويستطيعون الحفاظ على كرامة العمّال بدخلٍ لائق. في عام 2010، على سبيل المثال، بلغ صافي دخل زراعة الأرز ما يعادل 370 ألف دولار تقريباً (2.51 مليون يوان صيني)، وبلغ إجمالي دخل تأجير الأراضي ما يعادل مليونين و215 ألف دولار (15 مليون يوان صيني)، بينما بلغ إجمالي الدخل الموزَّع على العمّال الزراعيين قرابة 886 ألف دولار (6 ملايين يوان صيني)، وهذا يعادل 2500 دولار للفرد سنويًا (17 ألف يوان صيني)، أيْ 208 دولارات شهرياً للفرد، ورغم أنه قليل بمعايير تكاليف المعيشة بالمدن الكبيرة، لكنّه أكثر بعدة أضعاف من وسطي الدخل بالريف الصيني ويكفي لحياة كريمة بالنسبة لتكاليف المعيشة الريفية.
بالإضافة إلى ذلك، حرصت قرية ياكو بشدة على حماية البيئة الطبيعية. واليوم، لا تقبل بالصناعات الملوِّثة، حتى وإنْ كانت مربحة للغاية. في منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت القرية تضم صناعة للآلات. ولاحقًا، بين عامي 1979 1981، أنشأت 10 مصانع بتمويل أجنبي لمعالجة المواد المستوردة، ويعمل بها أكثر من ألفي عامل. كانت جميع رؤوس الأموال والمعدات والتكنولوجيا مملوكة لأجانب. استخدم رجال الأعمال الأجانب الأراضي والعمالة والطاقة المحلية الرخيصة للمشاركة في الإنتاج، ومعالجة المنتجات، وتصديرها إلى السوق العالمية. إلا أنّ الثروة المكتسبة بقيت في معظمها في أيدي الشركات الأجنبية، بينما لَوَّثت الأرضَ والمياهَ الجوفية بالنفايات الصناعية ومياه الصرف الصحي وغازات العادم والقمامة، مما أدى إلى الاختفاء التدريجي لبعض الأنواع الحيّة المحلية، وذبول العشب والأشجار، وتقويض البيئة المعيشية.
لذلك، تخلَّت قرية ياكو عن التنمية الصناعية في منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، مفضّلةً التضحية بالربح من أجل حماية البيئة. ومنذ ذلك الحين، اتجهت مقاطعة ياكو تدريجيّاً نحو التحول البيئي الصحّي، بل وعوّضت جزءاً من الدخل الصناعي المتخلّى عنه عبر نشاط آخر مشاريع السياحة البيئية الجديدة، حيث تتمتّع بمناظر طبيعية وزراعية جذّابة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1238