تطورات جديدة على جبهة الخسارة الأمريكية لعلماء الصين
«تسعى الصين جاهدةً لجذب العلماء الموهوبين، وترامب ساهم في ذلك»، هذا ليس عنواناً لمقال في صحيفة موالية للصين، بل عنوان لمقال حديث بقلم فيفيان وانغ إحدى مراسلات صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية في الصين، في 4 حزيران الجاري، حيث أكّد المقال أنه «حتى قبل أن تُهدد الولايات المتحدة بمنع الطلاب الدوليين ومحاصرة الجامعات، كانت حملة الإنفاق الضخمة التي شنتها الصين على العلوم تُؤتي ثمارها».
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
حققت الصين بالفعل انتصارات في منافستها مع الولايات المتحدة على اجتذاب المواهب العلمية. فقد استقطبت عدداً من أفضل الباحثين في العالم إلى جامعاتها، بعضهم ممّن مُنحوا جوائز نوبل، وماك آرثر «للعبقرية»، وجميع الجوائز الأكاديمية الأخرى المتاحة.
والآن، قد تُعزز سياسات إدارة ترامب جهود الصين قريباً، ففي عهد الرئيس ترامب، تُخفّض الولايات المتحدة تمويل الأبحاث الذي ساهم في ترسيخ سمعتها كقائد عالمي في مجال العلوم والتكنولوجيا. كما يُهاجم الرئيس الجامعات الرائدة في البلاد، ويحاول الحد من التحاق الطلاب الدوليين.
يتعرض العلماء الصينيون لضغوط خاصة، إذ يتّهمهم مسؤولون أمريكيون بأنهم قد يُشكّلون تهديداً للأمن القومي بسبب «نقلهم المعرفة القيّمة إلى الصين». وقد خضع علماء من أصل صيني للتحقيق أو حتى الاعتقال. في الأسبوع الماضي، أعلنت إدارة ترامب أنّها ستعمل على «إلغاء تأشيرات الطلاب الصينيين في المجالات الحيوية بشكل صارم».
نتيجةً لذلك، يبحث العديد من العلماء عن فرص في أماكن أخرى. وسارعت المؤسسات الصينية إلى محاولة الاستفادة من الوضع؛ فقد أعلنت جامعات في هونغ كونغ وشيان أنها ستُقدّم قبولاً مُبسّطاً للطلاب المُحوّلين من جامعة هارفارد. ورحّب إعلانٌ من مجموعة مرتبطة بالأكاديمية الصينية للعلوم بـ«المواهب التي طردتها المعاهد الأمريكية الوطنية للصحة».
قال تشانغ شياو مينغ، الخبير في عِلم التشريح، الذي غادر كلية بايلور للطب في تكساس العام الماضي لقيادة برنامج التعليم الطبي في جامعة ويستليك، وهي جامعة بحثية في مركز التكنولوجيا في هانغتشو بالصين: «الولايات المتحدة تطلق النار على قدمَيها».
وقال البروفيسور تشانغ، الذي أكد أنه يتحدث عن نفسه، وليس عن صاحب عمله: «منذ أن ذهبت إلى الولايات المتحدة قبل أكثر من 30 عاماً، تم دعم الكثير من أبحاثها من قبل الأجانب، بمن فيهم العديد من الصينيين... دون الأجانب، على الأقل في مجال البحث العلمي، لا يمكنهم الاستمرار».
جامعة «ويستليك» كمثال
لقد أصبحت الصين، بمفردها، أكثر جاذبية للعلماء في السنوات الأخيرة بسبب الاستثمارات الضخمة التي قامت بها البلاد في مجال البحث العلمي. وجامعة ويستليك مثال رئيسي، حيث تأسس حرم ويستليك الجامعي في عام 2018 على يد العديد من العلماء البارزين الذين عادوا هم أنفسهم إلى الصين من الغرب، وهو ينضح بالتقدم التكنولوجي. يلوح برج يشبه سفينة الفضاء فوق صفوف من مختبرات الأبحاث، وتتوزع مراكز الحوسبة ومرافق التجارب على الحيوانات حول حديقة مركزية، على شكل خلية بيولوجية. في المبنى الأكاديمي الرئيسي، تُعرض صور لعشرات الأساتذة - جميعهم استُقطِبواس من الخارج. من بينهم غوان كونليانغ، عالم الكيمياء الحيوية الذي فاز بمنحة ماك آرثر للعباقِرة، أثناء وجوده في ميشيغان الأمريكية. وتشنغ جيانجون، مهندس في عِلم المواد، كُرِّم عدة مرات من قِبل المؤسسة الأمريكية الوطنية للعلوم. ويو هونغتاو، عالم في الخلايا الحيّة خريج جامعة هارفارد، الذي حصل على تمويل بملايين الدولارات من معهد هوارد هيوز الطبي في ماريلاند الأمريكية.
تُعلن إعلانات التوظيف في جامعة ويستليك الصينية عن رواتب عالية، تتماشى مع تلك الموجودة في أفضل الجامعات الأجنبية، وربما هي أنجح جامعة صينية في استقطاب المواهب الأجنبية، لكنها ليست الوحيدة، فبين عامي 2010 و2021، غادر ما يقرب من 12,500 عالم من أصل صيني الولايات المتحدة إلى الصين، وفقاً لدراسة نُشرت في مجلة «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم». وكان معدل المغادرة يتسارع: فقد غادر أكثر من نصفهم خلال السنوات الخمس فقط بين عامي 2017 و2021.
قال يو شيه، الأستاذ بجامعة برينستون والمشارك في تأليف الدراسة، إنّ هذا الاتجاه استمر في السنوات القليلة الماضية، ولا يقتصر الأمر على العلماء المولودين في الصين الذين يغادرون الجامعة، فقد انضم تشارلز ليبر، الكيميائي السابق بجامعة هارفارد والذي أُدين عام 2023 بتهمة عدم الكشف عن مدفوعات من جامعة صينية، مؤخراً إلى جامعة تسينغهوا.
لماذا غادرت بعض الأدمغة الصينية بلادها؟
لطالما توافد العلماء الصينيون على الجامعات الأمريكية، منجذبين بوعد التعليم العالمي والموارد التي لا تستطيع بلادهم توفيرها. وفي ثمانينيات القرن الماضي، كان العلماء الصينيون الذين زاروا الولايات المتحدة يجمعون أنابيب اختبار يمكن التخلص منها لإعادة استخدامها في الصين، كما قال راو يي، عالم الأعصاب بجامعة بكين، والذي درس وعمل في الولايات المتحدة لمدة عقدين من الزمن.
استمر الإعجاب بالغرب حتى مع ازدهار الاقتصاد الصيني. في عام 2020، تمكّن طلاب صينيّون من الاستحواذ على ما يقرب من خُمس شهادات الدكتوراه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات الممنوحة في الولايات المتحدة، وفقاً لبيانات المؤسسة الوطنية للعلوم الأمريكية. تاريخياً، بقيت الغالبية العظمى من الصينيين الحاملين لشهادات الدكتوراه في الولايات المتحدة (87% بين عامي 2005 و2015) وفقاً للبيانات، وأصبح الكثير منهم مواطنين أمريكيين، وساعدوا الولايات المتحدة في جمع براءات الاختراع والمنشورات وجوائز نوبل.
إعادة توطين الأدمغة بدل تهجيرها
في السنوات الأخيرة عاد المزيد من العلماء إلى الصين، ويعود ذلك جزئياً إلى برامج التوظيف الحكومية التي تعدهم بملايين الدولارات من التمويل بالإضافة إلى إعانات الإسكان وامتيازات أخرى. أصبح إنفاق الصين على البحث والتطوير الآن في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة. وأصبحت المؤسسات الصينية مثل جامعة تسينغهوا وجامعة تشجيانغ تُصنف الآن بشكل روتيني من بين الأفضل في العالم في مجال العلوم والتكنولوجيا. يُعد هذا الاستثمار جزءاً من خطة لتحويل الصين إلى قوة علمية عظمى، ولا سيّما في المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات والتكنولوجيا الحيوية.
صرح الرئيس الصيني، شي جين بينغ، العام الماضي قائلاً: «إن الثورة العلمية والتكنولوجية متشابكة مع صراع القوى العظمى». في الوقت نفسه، دأبت الولايات المتحدة على إبعاد العلماء لسنوات، ولا سيّما من خلال التحقيق في علاقاتهم مع الصين.
كان لو وويوان، كيميائي البروتينات السابق في جامعة ماريلاند، أحد المستهدفين. وقد حققت معه المعاهد الأمريكية الوطنية للصحة بزعم عدم إفصاحه عن علاقات بحثية مع الصين - وهي علاقات قال إنّ جامعة ماريلاند كانت على علم بها. وبعد 20 عاماً في الجامعة، استقال في عام 2020.
انهارت في نهاية المطاف معظم القضايا المرفوعة بموجب ما يُسمى بـ«مبادرة الصين»، وانتقد العديد من الباحثين الحملة باعتبارها تمييزاً عرقياً. قال البروفيسور لو، الذي يعمل الآن في جامعة فودان في شنغهاي، إنّ العديد من أصدقائه فكّروا في مغادرة الولايات المتحدة، لكن معظمهم اختاروا البقاء لأنّهم بنوا حياتهم هناك. ولكن هجوم إدارة ترامب على تمويل الأبحاث قد يُغيِّر هذا الوضع. وقال البروفيسور لو: «إذا خفضوا هذا القدر الكبير من التمويل، فأعتقد أن ذلك قد يكون القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للكثيرين».
مشكلات تواجه الصين باستقطاب المواهب
من جانب آخر، أصبح من الصعب على الجامعات الصينية مقابلة العلماء الأجانب واستقطابهم، حيث واجه الباحثون الصينيون صعوبة في الحصول على تأشيرات إلى الولايات المتحدة لحضور المؤتمرات الأكاديمية. كما يواجه الباحثون في أمريكا قيوداً على زيارة الصين؛ فعلى سبيل المثال، تمنع ولاية تكساس موظفي الجامعات الحكومية من السفر إلى الصين للعمل.
يندرج العلماء الذين عادوا إلى الصين بشكل كبير ضمن فئات قليلة: أولئك الذين هم في بداية حياتهم المهنية، أو الذين يقتربون من التقاعد، أو الذين شعروا بالضغوط بسبب التحقيقات. قال عدد من العلماء إنّ الباحثين المتميزين في منتصف مسيرتهم المهنية ما زالوا متردّدين في المغادرة.
صرح البروفيسور راو من جامعة بكين، وهو أيضاً أحد مؤسسي جامعة ويستليك، بأن تقدم الصين في استقطاب الكفاءات الدولية قد أعاقته أيضاً الغيرة بين الزملاء المحليّين. وأضاف: «في حين ينبغي زيادة التمويل، إلا أنه ليس العامل الرئيسي في هذه المرحلة. إن دعم العلماء بناءً على جدارتهم وعلومهم الجيدة هو المفتاح».
وحتى في الداخل، لا يُستثنى العلماء من التدقيق السياسي، وقد حذرت وزارة أمن الدولة الصينية من أن الباحثين العائدين من الخارج قد يكونون جواسيس. أكد العديد من العلماء المولودين في الصين - سواء أولئك الذين عادوا إلى الصين أو الذين ما زالوا في الولايات المتحدة - أنهم لا يريدون التورط في السياسة. كانوا يحاولون القيام بعمل جيد فقط. والحقيقة البسيطة، كما اتفق الكثيرون، هي أن القيام بذلك في الصين أصبح أسهل بشكل متزايد.
قال فو تيانفان، 32 عاماً، وهو باحث في مجال الذكاء الاصطناعي غادر معهد رينسيلار للفنون التطبيقية في كانون الأول الماضي للانضمام إلى جامعة نانجينغ الصينية: «من الصعب البقاء على قيد الحياة في أمريكا. والصين تتطور بسرعة كبيرة». وأضاف: «هل هذا هو الخيار الأفضل؟ قد يستغرق الأمر بعض الوقت لمعرفة ذلك».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1230