الولادة كانتفاضة: الأمهات والقابِلات في غزة
تحرم «إسرائيل» الفلسطينيات من الوصول إلى خدمات الولادة الآمنة منذ فترة طويلة. وتجبر نساء فلسطينيات على الولادة عند نقاط التفتيش العسكرية دون رعاية طبية. وفي ظل الحصار، تعاني المستشفيات في غزة من نقص حاد في الموارد، خاصة مسكنات الألم، مما يجعل العديد من النساء يخضعن للولادة دون تخدير، ما يزيد من خطورة المضاعفات.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
حولت الحملة «الإسرائيلية» المدمرة البنية التحتية الصحية في قطاع غزة إلى ساحة حرب مباشرة، ما أدى إلى توقف معظم المستشفيات عن العمل. وفي خضم الكارثة الإنسانية، بقيت النساء الحوامل ومواليدهن مهددين بغياب الرعاية الطبية الأساسية. هذه الإبادة الجماعية المستمرة جزء من السياسة الصهيونية التي تعتاش على الموت، حيث يُستخدم العنف كوسيلة للسيطرة على وجود الفلسطينيين. ومع ذلك، يبقى هناك بصيص أمل في شجاعة الشعب الفلسطيني ومقاومته، وفي هذا السياق يركز المقال الآتي المنشور في مجلة «العلم من أجل الناس» على دور القابلات الفلسطينيات والأمّهات اللواتي يواصلن إنقاذ الأرواح رغم الظروف المأساوية، ويحوِّلن الولادة إلى فعل مقاومة.
الوجود «الإسرائيلي» القائم على القتل
لم تبدأ الإبادة الجماعية اليوم بمعزل عن الماضي؛ بل هي استمرار لنهج «إسرائيل» الطويل في استهداف البنية التحتية الصحية، بما فيها مستشفيات الولادة.
يؤكد الدكتور غسان أبو ستة، الذي عمل في مستشفى الشفاء في غزة، أن تدمير المستشفيات ليس عرضياً، بل هو استراتيجية عسكرية متعمَّدة تهدف إلى إبادة السكان. وتستهدف هذه الاستراتيجية حتى الأطفال حديثي الولادة، ما يظهر أن الهدف «الإسرائيلي» ليس الحرب فقط، بل محو أيّ مستقبل فلسطيني.
الولادة تحت الاحتلال
لا يمكن فصل ظروف الولادة في فلسطين عن واقع الاحتلال العسكري والاستعمار. فالاحتلال لا يسيطر على الأرض فحسب، بل على الحياة والموت أيضاً، كما يشير الباحث أشيل مبيمبي في مفهوم «السياسة الجنائية» Necropolitics، حيث تصبح السيطرة على الحياة مرتبطة بالقدرة على تحديد مَن يعيش ومَن يموت. وتحوّل «إسرائيل» غزة إلى «عالم من الموت»، وتحكم على السكان الذي يبقون على قيد الحياة بأنْ يكون ذلك بأدنى مستوى ممكن.
كيف يمكن للحياة أن تُولد في عالم الأموات؟ هذا هو التناقض الذي تواجهه القابلات الفلسطينيات كل يوم. لكنهن لا يستسلمن، بل يقدّمن الولادة كفعل مقاومة، وكتعبير عن التمسك بالوجود والحياة.
تاريخ القِبالة تحت الاستعمار
يمكننا فهم الولادة الفلسطينية كجزء من نضال طويل الأمد ضد الاستعمار. خلال الانتداب البريطاني، تم استبدال «الدايات» – القابلات التقليديات الفلسطينيات – وإحلال نموذج طبي غربي مكانهنّ، ضمن عملية أوسع لإخضاع المجتمع الفلسطيني ثقافياً واقتصادياً. كانت الدايات في السابق شخصيات محترمة تقدم رعاية صحية وثقافية شاملة، لكنهن تعرضن للرقابة والتجريم لمصلحة القابلات الغربيات البيضاوات، اللواتي عملن كجزء من آلة الاستعمار.
استمر هذا النهج مع قيام كيان الاحتلال/«إسرائيل»، حيث حوّلت سياسات الفصل العنصري الولادة إلى سلاح سياسي. وبحسب الأمم المتحدة، فإن نحو 2500 امرأة فلسطينية حامل تواجه سنوياً صعوبات كبيرة في الوصول إلى الولادة الآمنة، بسبب الحصار والحواجز العسكرية، بينما يواصل المستوطنون اعتداءاتهم بلا عقاب.
الولادة كمقاومة
تعكس ممارسات القِبالة الفلسطينية التاريخ الطويل من النضال، وتتحوّل اليوم إلى أحد مظاهر المقاومة. فالقابلات، مثل السيدة سماح قشطة، البالغة من العمر 29 عاماً، يعملن رغم الحصار والقصف، وتقول سماح بكل فخر: «كل مرّة أساعد فيها امرأة على الولادة، أشعر بأن الله وهبنا حياة جديدة». هذه الكلمات ليست مجرد تعبير عن الفرح، بل هي إعلان صمود أمام محاولات محو الوجود الفلسطيني.
إن القتل أو السماح بالولادة ليس مجرّد أعمال طبية، بل هي عمليات سياسية. وعندما تُولد حياة جديدة في ظل الاحتلال، فإنها ترفض نظام الزمن «الإسرائيلي»، وتُعلن عن حق الشعب الفلسطيني في العودة والحرية.
تجارب شعوب أخرى
لا تقتصر هذه السياسات الوحشية على فلسطين، بل تجد لها أوجه شبه مثلاً في معاملة كندا مع شعوبها الأصلية. فمثلاً، تنقل الحكومة الكندية النساء الحوامل من مجتمعاتهن الأصلية إلى مراكز حضرية لولادتهن، ما يؤدي إلى تفكك شبكات الدعم وتفاقم المخاطر الصحية. وتشير الأبحاث إلى أن هذا النهج ليس طبياً فحسب، بل هو أداة لإخضاع الشعوب الأصلية.
وهذا يربطنا بمفهوم أوسع للطبّ عندما يشوَّه ويحرَف عن مهمته الإنسانية ليستعمل كسلاح استعماري، حيث تُستخدم الخدمات الصحية كوسيلة للسيطرة. لذلك، فإن التضامن مع الفلسطينيين ليس قضية إنسانية فقط، بل جزء من معركة أوسع ضد الاستعمار.
العمل التطوعي كمقاومة
إذا كانت الولادة في فلسطين فعل مقاومة، فإن التضامن مع القابلات الفلسطينيات يجب أن يكون جزءاً من الممارسة المهنية في الدول الغربية. فليس من المعقول أن تستمر القابلات في كندا وأوروبا في العمل دون التصدي لدور حكوماتهن في دعم الإبادة الجماعية. ولذلك، ندعو إلى تحويل مهنة القبالة إلى ممارسة سياسية، تدافع عن الحق في الولادة الحرة والكريمة.
إن التضامن الحقيقي لا يقتصر على الإدانة، بل يتطلب اتخاذ موقف واضح، ودعم المقاطعة، وفضح الجرائم ««الإسرائيلية»، والعمل من أجل إنهاء التواطؤ في الإبادة الجماعية.
الولادة بين الألم النفسي والتمسك بالهوية
لا تقتصر آثار الولادة تحت الاحتلال على الجانب الجسدي أو الطبي فحسب، بل تمتد لتضرب في العمق جوانب الصحة النفسية والعاطفية للأمهات الفلسطينيات. فالولادة في ظل الحصار والقصف المستمر، وسط الدمار والموت، تحمل أبعاداً نفسية لا يمكن تجاهلها. كيف يمكن لامرأة أن تشعر بالأمان أو الرعاية أثناء المخاض، بينما تسمع صوت الانفجارات خارج جدران المستشفى؟ وكيف يمكن للأم أن تستقبل مولودها الجديد في بيئة تفتقر إلى أقل مقومات الحياة، من كهرباء ومياه نظيفة إلى دعم طبي كافٍ؟
تظهر الدراسات أن النساء الفلسطينيات يعانين من مستويات عالية من القلق والاكتئاب قبل وبعد الولادة، نتيجة الظروف السياسية والاقتصادية المتدهورة. ومع تدمير البنية التحتية الصحية، واستهداف الأسر والعائلات، تتحول كل ولادة إلى حدث مشحون بالخوف والحزن، حيث قد تكون الأم نفسها قد فقدت أحد أطفالها أو أحد أفراد عائلتها في الأيام أو الأسابيع السابقة. هذا الواقع يجعل من الولادة تجربة متعددة الأبعاد: فهي ليست ولادة طفل جديد فقط، بل هي أيضاً مواجهة مباشرة مع الموت، ومحاولة لإعادة بناء الأمل في زمن يحاول سحقه.
لكن ما يلفت النظر هو أن هذه التجارب المؤلمة لم تمح الإيمان بالحياة، بل حوّلته إلى رمز للصمود والتمسك بالهوية. ففي مجتمع يُحرم من كثير من حقوقه الأساسية، تصبح ولادة طفل جديد تأكيداً على الاستمرارية، ورفضاً لمحاولات محو الوجود. كما تقول العديد من القابلات في غزة: «كل طفل يولد هو رسالة حب للوطن، وهو دليل على أننا باقون رغم كل شيء».
إلى جانب ذلك، تلعب العادات والتقاليد الفلسطينية دوراً مهماً في الحفاظ على الروح خلال الولادة. فرغم النقص الشديد في الخدمات، تحاول الأسر الاحتفال بالطفل الجديد قدر الإمكان، سواء عبر تسمية الطفل بأسماء تعكس الهوية الوطنية، أو عبر توزيع الحلويات ولو بكميات بسيطة، كتعبير عن الفرح الذي لا يُمكن للموت أن يطمسه.
بهذا، تتحول الولادة إلى فعل مقاومة ليس ضد الاحتلال فقط، بل وضد اليأس والإحباط، لتؤكد أن الحياة، حتى في أحلك الظروف، قادرة على أن تُولد من جديد.
الولادة في فلسطين ليست مجرد عملية بيولوجية، بل هي عملٌ سياسيّ، ومصدرٌ للمقاومة، ووعدٌ بالعودة. في وجه محاولة «إسرائيل» تحويل غزة إلى عالَم من الموت، تستمر الأمّهات والقابلات الفلسطينيات في تقديم الحياة، كأنّ كل طفل يولد يحمل رسالة رفض للاحتلال وتأكيداً على حق الشعب الفلسطيني في الوجود. ومن خلال تحويل الولادة إلى ممارسة سياسية، نعيد تعريف المقاومة، ونفتح الطريق أمام التحرر.
* الكاتبتان: وحي محمد، باحثة في الأنثروبولوجيا الطبية والدراسات الأفريقية بجامعة كارلتون، تركز أبحاثها على تقاطعات الصحة العالمية والإمبريالية الغربية. توكا شمخي: قابِلة وناشطة في الصحة الإنجابية وعلاقتها بالسياسات الاستعمارية، نشرت بحثاً عن تجارب طالبات التوليد من خلفيات عرقية مختلفة في المجلة الكندية لأبحاث وممارسات التوليد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1229