قانون القيمة ومعدَّل الربح في الصين (2)
لماذا استطاعت الصين المناورة مع قانون القيمة، والسيطرة على تأثيراته في أسواقها والاستثمار الأجنبي فيها؟ السبب الرئيسي بحسب روبرتس وكارشيدي يكمن في استثمار الصين بقطاع عام ضخم مملوك للدولة وتحكّمها باقتصادها عبر سياسة تخطيط مركزي ترسمها الدولة «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية» بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، حيث يتمّ تقييد الملكية الأجنبية للصناعات الجديدة وفرض ضوابط على تدفق رأس المال داخل البلاد وخارجها، ممّا مكّن الصين من توسيع الاستثمار والتكنولوجيا، وتوظيف قطاعات واسعة من العمالة، وتجنُّب سيطرة الشركات متعددة الجنسيات على الاقتصاد الوطني ومصير البلد.
في البداية، لنذكّر مرّة أخرى بفحوى قانون القيمة الذي اكتشفه ماركس ومآله التاريخي: قيمة البضاعة تتحدَّد بوقت العمل الضروري اجتماعياً اللازم لإنتاجها، أي بالإنتاجية الوسطيّة للعمل، وبالتالي بتقنيّات وكثافة العمل. يُستَنتَج من ذلك أنّه طالما بقي هناك «إنتاجٌ بضاعيّ» في مجتمعٍ ما؛ أيْ مَنتوجات وخدمات مخصّصة للبيع والشراء، فسيظلّ لها قيمة تبادُليّة إلى جانب قيمتها الاستعمالية، وبالتالي لها «سعر» في السوق يَنُوسُ حول قيمتها (ينحرف عن القيمة زيادةً أو نقصاناً) ولكنّه يتحدَّدُ بهذه القيمة في نهاية المطاف، وسوف تنهار نحو القيمة عاجلاً أم آجلاً أيُّ أسعارٍ وهمية (لرأس المال الوهمي/المُضارِب). وطالما قانون القيمة فعَّالٌ في المجتمع، فهناك توزيعٌ للثروة بين أرباحٍ وأجور، لأنّ شطراً من القيمة سيُجيَّرُ لصالح الرِّبح، مستمَدّاً من القيمة الزائدة فوق ذلك الشطر من القيمة الضرورية لتجديد قوّة العمل (دفع الأجور) وتعويض الاهتلاك الفيزيائي والمَعنوي لوسائل الإنتاج. ويضطرّ الرأسماليون -تحت التهديد بالإفلاس وخسارة المنافسة فيما بينهم- إلى تخصيص مستمرّ لنسبةٍ (تتزايد تاريخاً) من الثروة التي تحت أيديهم لتوسيع الإنتاج وتطوير وسائله بأحدث التكنولوجيات للحفاظ على الإنتاجية وتطويرها، فيزداد رأس المال الثابت بالنسبة لرأس المال المتغيّر، أيْ يزداد التركيب العضوي لرأس المال تعقيداً، مما يضغط على النسبة المتبقّية المخصَّصة لأرباحهم، وهذا هو فعلُ قانون المَيل التاريخي لمعدَّل الربح نحو الانخفاض مع زيادة التركيب العُضوي لرأس المال، كسببٍ عميق وراء الأزمات الرأسمالية، ودافعٍ للتناقض بين الإنتاجية والرّبحية موصلاً إيّاه لمستوى تناحريّ (وهو كذلك أحد تجلّيات التناقض الأساسي بين الطابع الاجتماعي لقوى الإنتاج وعلاقات الملكية الخاصة الرأسمالية). وحلُّه النهائي التقدّمي هو في الإطاحة بالربحية مع الاحتفاظ بالإنتاجية وتطويرها، أيْ بالقضاء على الرأسمالية من خلال بناء الاشتراكية كمرحلة انتقالية للوصول إلى التشكيلة الشيوعية.
قانون القيمة في «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»
طالما يوجد تراكم رأسمالي في الصين، رغم تعايشه التَّنافُسيّ مع التراكم الاشتراكي (كما ذُكر في الجزء الأول من هذا المقال)، فإنّ قانون القيمة يعمل أيضاً ولكن بتأثيرٍ مُعدَّل ومقيَّد وأحياناً مُعطَّل، بسبب التدخل البيروقراطي من الدولة والحزب الشيوعي، لدرجة أنّ الرأسماليين لا يستطيعون حتى الآن السيطرة الكاملة على مسار الاقتصاد الصيني وتوجيهه. فرغم التوسع الملحوظ للشركات الخاصة في الصين، الأجنبية والمحلية، على مدى الثلاثين عاماً الماضية، وإنشاء سوقٍ للأوراق المالية ومؤسَّسات مالية أخرى، إلّا أنّ الغالبية العظمى من فرص العمل والاستثمار ما تزال تُدار من شركات مملوكةٍ للقطّاع العام أو مؤسَّسات تخضع لتوجيه وسيطرة الحزب الشيوعي الصيني. والجزء الأكبر من الصناعة الصينية الرائدة عالمياً ليست شركات متعددة الجنسيات مملوكة لأجانب، بل شركات مملوكة للدولة الصينيّة. وبنوك الصين الرئيسية مملوكة للدولة، والحكومة هي التي توجِّهُ سياساتها في الإقراض والإيداع. لا يوجد «تدفُّق حرّ» لرأس المال الأجنبي مِن وإلى الصين، بل تَفرِضُ الدَّولة الصينية ضوابطَ على رأس المال وتُناوِرُ بقيمة العملة لتحديد الأهداف الاقتصادية «ممّا يُثير حفيظة الكونغرس الأمريكي» بحسب تعبير روبرتس.
الدور القيادي للقطاع العام الصيني
في عام 2018 بلغ إجمالي أصول الشركات المملوكة للدولة الصينية 194% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى ممّا كان عليه في أوائل العقد الأول من القرن 21، إضافة لكونها أكبر حجماً بكثير مما لدى أي بلد آخر. وبالمقارنة فإنّ حجم الأصول العامّة في أيّ دولة رأسمالية هي أقلّ من 50% من الناتج المحلي الإجمالي. في كل عام، يبلغ الاستثمار العام في الصين إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 16% مقارنة بنسبة 3-4% فقط في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وتبلغ الأصول الإنتاجية العامة في الصين نحو ثلاثة أضعاف أصول القطاع الرأسمالي الخاص، بينما في الولايات المتحدة وبريطانيا، تبلغ الأصول العامة أقل مِن 50% من الأصول الخاصة. وفي الهند واليابان لا تتجاوز هذه النسبة 75%. وهذا يدل على أنّ الملكية العامة لوسائل الإنتاج في الصين هي المهيمِنة، على عكس أي اقتصادٍ رئيسيّ آخر.
لاحظ تقريرٌ للجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية الأمريكية الصينية ضخامة الجزء الذي تملكه وتسيطر عليه الدولة من الاقتصاد الصيني؛ ويبدو أن قطاع الدولة المرئي - الشركات المملوكة للدولة والكيانات التي تحت سيطرتها المباشرة - يمثل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي غير الزراعي في الصين. وباحتساب الكيانات الخاضعة لسيطرة غير مباشرة من الدولة ترتفع حصة الناتج المحلي الإجمالي المملوك أو الخاضع للدولة إلى نحو 50%.
هيمنة الحزب الشيوعي الصيني
في الوقت نفسه «يتسلّل» الحزب الشيوعي/آلة الدولة إلى جميع مستويات الصناعة والنشاط في الصين. وفقاً لتقرير صادر عن جوزيف فانغ وآخرين، توجد منظمات حزبية داخل كل شركة توظِّف أكثر من ثلاثة أعضاء من الحزب الشيوعي. تنتخب كل منظمة حزبية سكرتيراً لها يمثّل العمود الفقري لنظام الإدارة البديل لكل مؤسسة. يمتد هذا إلى ما هو أبعد من الشركات المملوكة للدولة والشركات المُخصخَصة جزئياً والمؤسَّسات المملوكة للحكومة في المقاطعات والقرى، ليصل إلى القطاع الخاص أو «المنظمات الاقتصادية الجديدة» كما تسمّى. في عام 1999، كان لدى 3% فقط من هذه المنظّمات خلايا حزبية، وارتفعت النسبة إلى نحو 13% عام 2022. والحقيقة أن جميع الشركات الصينية تقريباً التي توظِّف أكثر من 100 شخص، لديها نظام تحكم داخلي قائم على خلية حزبية. وهذا ليس من مخلَّفات العصر الماويّ، بل هو الهيكل الحالي الذي تم إنشاؤه خصّيصاً للحفاظ على سيطرة الحزب على الاقتصاد. ينخرط الحزب الشيوعي الصيني الآن في النظام الأساسي للعديد من شركات البلاد الكبرى، حيث يوصف بأنه يلعب دوراً أساسياً «بطريقة منظَّمة ومؤسّسية وملموسة... ويقوم بالتوجيه وإدارة الوضع العام». هناك 102 مؤسسة حكومية رئيسية أصولها 50 تريليون يوان، تشمل شركات النفط الحكومية والاتصالات والطاقة والأسلحة، ساهمت بنسبة 60% من الاستثمارات الخارجية للصين بحلول نهاية 2016. أُنشئت لجانُ الحزب الشيوعي في العديد من شركات التكنولوجيا، لمراجعة كل شيء من العمليات إلى الامتثال للأهداف الوطنية. ناقشت الجهات التنظيمية الاستحواذ على حصة 1% في بعض الشركات العملاقة، بما في ذلك علي بابا وتينسنت، بالإضافة إلى مقعد في مجلس الإدارة. وقد شُجِّعت شركات التكنولوجيا على الاستثمار في الشركات المملوكة للدولة، بهدف زيادة إنتاجيّتها. وقد وجد تقرير حديث أنّ 60% من الشركات الصينية الناشئة تتلقّى استثمارات مباشرة أو غير مباشرة من الدولة. مَن يهيمن على قطاع رأس المال الاستثماري في الصين ليس صانعو الصفقات التكنولوجية التقليديون بل الدولة: أكثر من 1000 شركة رأس مال استثماري مملوكة للدولة وتسيطر على أكثر من 750 مليار دولار.
الدافع الرئيسي للحزام الطريق: الإنتاجية أم الربحية؟
عملت شركات القطاع العام الصيني على استيعاب وإدماج التكنولوجيات الغربية، تارةً عبر التعاون مع الغرب وطَوراً من دونه. والقطاع العام الصيني اليوم منخرطٌ في مشاريع عالمية، من الأرجنتين وكينيا وباكستان، إلى المملكة المتحدة. يقول روبرتس وكارشيدي: «إنّ الصين عندما تستثمر في الخارج عبر شركاتها المملوكة للدولة، فإنها لا تفعل ذلك بسبب (رأسمال فائض) أو حتى بسبب انخفاض معدّل الربح في مشاريعها الدَّولتيّة والرأسمالية»، وإنّ الهدف من مشروع (حزام واحد، طريق واحد) ليس الربح بالدرجة الأولى، بل توسيع التأثير الاقتصادي للصين عالمياً [وما يرافقه من نفوذ جيوسياسي وإيديولوجي] واستجلاب الموارد الطبيعية والتكنولوجية للاقتصاد الوطني.
وبالمثل من أجل أن تتغلب الصين على تأثير انهيار التجارة العالمية الناجم عن الأزمة الاقتصادية التي ضربت الاقتصادات الكبرى بعد 2008، لجأت إلى موجة جديدة من التوسيع الضخم للاستثمار الصيني في البنية التحتية، والذي لم يكن نوعاً من «الكينزيّة» في الإنفاق/الاقتراض الحكومي، كما يزعم اقتصاديون من التيّار البرجوازي السائد وحتى بعض الماركسيين أحياناً، بل كان في الحقيقة برنامج استثماراتٍ مُخطَّطاً وموجَّهاً بقيادة الدولة الصينية وعبر شركات قطاعها العامّ، ومموَّلاً من مصارف تملكها الدولة. إنه «استثمار اجتماعيّ التوجّه» socialised investment. ورغم أنّ المنظِّر البرجوازي جون ماينرد كينز قد فكّر باستثمار اجتماعيّ وناقَشَهُ ولكنّه لم يُطبَّق على نحوٍ حقيقيٍّ قَطّ في الاقتصادات الرأسمالية خلال أزمة الركود العظيم (ثلاثينيّات القرن العشرين) لأنّ تطبيقه كان سيعني التخلّي عن الرأسمالية.
* بتصرّف: عن كتاب مايكل روبرتس وغواليلمو كارشيدي (الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين)، بلوتو برس، 2023.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1228