ماركس في عصر الروبوت والذكاء الاصطناعي
أخذت تنتشر فكرة إمكانية وجود «عالَمٍ بلا عَمل»، على نحو خاص منذ بدأت أزمة «الركود العظيم» الرأسمالية عام 2008. وما زالت تتنامى النقاشات والتنظيرات في الاقتصاد والعلم والثقافة حول أحدث تطويرات الأتمتة والحوسبة والروبوتات والذكاء الاصطناعي. وكلّما ظهر اختراع جديد في هذه المجالات، تتجدّد المخاوف التي تتراوح في طيفها ما بين القلق من توسّع «البطالة التكنولوجية» إلى شطحات الخيال العلمي حول نهاية كارثية سوداوية للنوع البشري إما كعبيد لروبوتات «أذكى من الإنسان» وتتحكّم به، أو حتى انقراض النوع البشري وخضوع الكوكب لحكم «الآلات الذكية».
لم يستخدم ماركس مصطلح «الأتمتة» ومع ذلك انتقد باكراً أحد تناقضات الرأسمالية، الذي عبّر عنه أكثر من مرة في عدة كتابات، ومنها قوله: «في أيامنا هذه، تبدو كلُّ الأشياء حُبلَى بنقيضها. فرغمَ الآلات التي وُهِبَتْ قدرةً رائعةً على تقصير العمل البشري وجعله مثمراً أكثر، نشهَدُ تجويعَ العامل وإنهاكَه». وكتب في رأس المال أنه «من الممكن تأريخ كامل الاختراعات منذ العام 1830 بأنها تمّت لغرض وحيد، هو تسليح رأس المال ضدّ ثورة الطبقة العاملة».
ظهر مصطلح الأتمتة لأول مرة على نطاق واسع في الولايات المتحدة، في الخمسينيّات من القرن العشرين. وعادة ما يُنسب ابتكار مصطلح «الأتمتة» automation إلى ديلمار هاردر، نائب رئيس التصنيع في شركة فورد للسيارات. ووفقاً لإحدى الروايات عن نشأة هذا المصطلح، استخدم هاردر الكلمة لأوّل مرة أثناء محادثة له مع مسؤول تنفيذي آخر في شركة فورد حول تحسين معدات مناولة الأجزاء وإزالة «التأخيرات التي تحدث غالباً بسبب العنصر البشري». وكما يوضح ديفيد نوبل، عندما دعا هاردر إلى المزيد من «الأتمتة» في شركة فورد، كان يعني ببساطة «زيادة استخدام الآلات الكهروميكانيكية والهيدروليكية والهوائية ذات الأغراض الخاصة للإنتاج ومناولة الأجزاء والتي كانت موجودة لبعض الوقت».
ماركس عن الآلات
مع أن ماركس لم يذكر كلمة «الأتمتة» بحد ذاتها، إلا أنه كان يفهم تقنيات «ورشة العمل الأوتوماتيكية»، حيث درسها ماركس لأول مرة على نطاق واسع من أجل نقده لبرودون في كتاب ماركس «بؤس الفلسفة». ولو قرأ هاردر القسم الخاص بـ«النظام الآلي للآلات» في المجلد الأول من كتاب رأس المال، لربما وجد نموذجاً للإنتاج المستمر يصف طموحاته بشكل أساسي (حتى وإن كانت صناعة السيارات تختلف عن أمثلة ماركس بالطبع). كتب ماركس «بمجرد أن تنفذ الآلة، دون مساعدة الإنسان، جميع الحركات المطلوبة لتجهيز المواد الخام، وبمجرّد ألّا تحتاج الآلة إلا إلى مساعدة تكميلية من العامل، يكون لدينا نظام آليٌّ للآلات، قادر على التحسين المستمر في تفاصيله». بطبيعة الحال، لم تكن التحسينات التي سعى هاردر إلى تحقيقها تقنيةً فحسب، فقد كان فورد مناهضاً للنقابات دوماً، لكن سنوات الحرب شهدت ارتفاعاً حاداً في مقاومة العمال: فقد نفّذوا 773 إضراباً في مصانع فورد بين عامي 1941 و1945. وعلى هذا فإن الأتمتة لم تكن حلاً لـ«التأخير» في الإنتاج فحسب، بل وللسيطرة على العمال.
ووفقاً لماركس، لم تبدأ الثورة الصناعية بأشكال جديدة من الطاقة المحركة مثل البخار، بل بدأت بتحويل الأداة اليدوية إلى جزء من الآلة: «ليس العمل، بل أداة العمل، هي التي تعمل كنقطة انطلاق للآلة». ويعرّف ماركس الآلة بأنها استيلاء على أداة العامل، والتي تصبح بالتالي غير يدوية: «الآلة، إذن، هي آلية تقوم، بعد وضعها في الحركة، بالعمليات نفسها التي كان العامل يقوم بها من قبل بأداة مماثلة». عندها فقط يصبح العامل البشري قوة دافعة تعادل وظيفياً الرياح والمياه والبخار، فأنظمة الآلات الأكبر ولدت الحاجة إلى قوى دافعة أقوى من العضلات البشرية.
وهكذا فحتى قبل ظهور مصطلح «الأتمتة»، يسلّط وصف ماركس للإنتاج الآلي الرأسمالي في الفصل الخامس عشر من رأس المال، الضوء على تدمير هذه العملية للعمّال طالما أنها تتم في خدمة الرأسمالية، ناهيك عن تدمير الطبيعة، التي يتناولها ماركس في القسم الأخير من الفصل حول الزراعة.
إن حجة ماركس المركزية لم تكن «حنيناً إلى الماضي» أو دعوة إلى العودة إلى العمل اليدوي، بل هي اتهام للرأسمالية يسلط الضوء على الطريقة التي لا يستطيع بها هذا النظام التعبير عن الإمكانات التكنولوجية إلا في شكل معكوس، كما أكد ماركس: «الآلات في حد ذاتها تقصر ساعات العمل»، ولكن «عندما يستخدمها رأس المال فإنها تطيلها» إنها «تخفف العمل، ولكن عندما يستخدمها رأس المال فإنها تزيد من كثافته».
الحلّ: سُلطة «البشر الأحدث طرازاً»
في 14 نيسان 1856 دُعي ماركس كممثل رسمي للاجئين الثوريين في لندن إلى مأدبة عشاء أقيمت بمناسبة الذكرى الرابعة لصدور «صحيفة الشعب»، لسان حال حركة العمّال الإنكليز «الشارتيّة». وقد استغل المناسبة لإظهار التضامن الأممي الذي وحّد الثوار البروليتاريين، الذين كان قد أثبت نفسه بينهم باعتباره زعيماً بارزاً. وفي خطابه، وكان أول المتحدثين، ركز ماركس على الدور التاريخي للبروليتاريا. وفيما يلي مقطع من خطاب ماركس له صلة وثيقة بموضوع مقالنا الحالي، يمكننا أن نختم به، حيث قال ماركس:
«ثمّةَ حقيقةٌ عظيمة تميّز قرننا التاسع عشر هذا، وهي حقيقةٌ لا يجرؤ أيّ حزب على إنكارها، ألا وهي أنه، وبينما ظهرت إلى الحياة قوى صناعية وعِلمية لم تتوقّعها أيّةُ حقبةٍ في تاريخ البشرية السابق، فإنّه توجد من جهة أخرى أعراضُ تفسُّخٍ، تتجاوزُ بكثيرٍ الأهوالَ المُدوَّنة في أواخر عصر الإمبراطورية الرومانية. في أيامنا هذه، تبدو كلُّ الأشياء حُبلَى بنقيضها. فرغمَ الآلات التي وُهِبَتْ قدرةً رائعةً على تقصير العمل البشري وجعله مثمراً أكثر، نشهَدُ تجويعَ العامل وإنهاكَه. حتى انقلبَت أحدثُ مصادرِ الثروة وأكثرِها عصريةً، بتأثير تعويذةٍ عجيبة، إلى مصادرَ للفاقةِ والعَوَز. وجاءت انتصاراتُ الفنّ، كما يبدو، على حساب خسارة الشخصية. ويبدو أنه بالسرعة نفسها التي تسيطر فيها البشرية على الطبيعة، يمسي الإنسان مُستَعبَداً للإنسان الآخر، أو عَبداً لأعمالِه الشائنة بالذات. وحتى نور العِلم النقيّ يبدو عاجزاً عن السطوع إلّا على خلفية الجهل المُظلِمة. كلّ تقدُّمنا وجميعُ اختراعاتنا كأنّما تَمنَحُ بالنتيجةِ حياةً فكريةً للقوى المادّية، وتخسِفُ بالحياة البشرية إلى دَرَكِ قوّةٍ مادّية. هذا التناحُر بين الصناعةِ الحديثة والعِلم من جهة، والبؤسِ والانحلالِ الحديث من جهة أخرى؛ هذا التناحرُ بين القوى المُنتِجة وعلاقاتِ عصرنا الاجتماعية، حقيقةٌ واقعةٌ، ملموسةٌ، قاهرةٌ، لا جِدال فيها. البعضُ يقابلُها بالنَّدبِ والعَويل، وآخرون يقابلونها بأمنياتِ التخلّص من الفنون الحديثة علَّ وعسى أنْ يخلّصهم ذلك من الصراعات الحديثة. أو ربّما يتخيّلون بأنّ إشارةَ تقدُّمٍ صناعيٍّ كهذا تحتاجُ إكمالَها بإشارةِ تراجُعٍ في السياسة. أمّا مِن جانبنا، فإننا لا نخطئ في تمييز شكل الرّوح الماكر الذي تستمرّ هذه التناقضات بالتلفُّعِ به. ونحنُ نعرفُ بأنّ كلّ ما تحتاجُه قوى المجتمعِ الأحدثُ طرازاً لكي تَعمَلَ على ما يُرام، هو أنْ يُسيطِر عليها بشرٌ مِنْ أحدَثِ طِراز - وهؤلاء بالذات هم العُمّال؛ إنهم الاختراعُ الذي تَولَّدَ من الزمنِ الحديث بقدر ما تولَّدَ مِن الآلة الحديثة نفسِها».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1185