«شاشة الموت الزرقاء» وعواقب الخضوع للاحتكار الإمبريالي

«شاشة الموت الزرقاء» وعواقب الخضوع للاحتكار الإمبريالي

تسبب أكبر انقطاع في التاريخ لأنظمة تكنولوجيا الاتصالات والحوسبة التابعة لشركة مايكروسوفت، يوم الجمعة 19 تموز 2024، بإحداث فوضى عالمية وخاصةً في الغرب، في حين لم تتأثر روسيا والصين، وتم احتواء الأضرار في بلدان أخرى أقل استقلالاً، بفضل خطط طوارئ أو بدائل عوضاً عن الثقة العمياء بالشركة الأمريكية. وكان الانقطاع خطيراً لدرجة تهديد أمن أو حياة ملايين البشر، ولا سيّما أنّ من المنظومات المتعطلة مطارات واتصالات طوارئ ومستشفيات وبنوك، وغيرها من قطاعات حيوية. ومع أنّ معظم وسائل الإعلام ركّزت على السبب المباشر الآنيّ للمشكلة، وهو تحديث برنامج من قبل شركة الأمن السيبراني «كراود سترايك» لمصلحة أنظمة تشغيل ويندوز مايكروسوفت (وكلاهما أمريكيتان)، ورغم الميل لتبرئة مايكروسوفت من المسؤولية، وتحميلها للشركة الأصغر، لكن الحقيقة هو أنّ سيناريو كهذا لطالما كان متوقعاً وحذّر منه خبراء بأمن المعلومات منذ أكثر من 20 عاماً، وذلك بالتحديد بناءً على تحليلهم انتهاكات مايكروسوفت لقواعد أمان علميّة معروفة بدافع مصالحها الاحتكارية والأنانية.

العطل الواسع أدى لظهور ما يسمى «شاشات الموت الزرقاء» على أجهزة الكمبيوتر التي تعمل بنظام التشغيل «مايكروسوفت ويندوز»، لدرجة اضطرار شركات الطيران عرض مواعيد رحلاتها مكتوبة بخط اليد على لوحات ورقية بدل الشاشات، مما أثار سخرية واسعة. وحتى وسائل إعلام أمريكية كبرى مثل وكالة بلومبرغ لم تستطع تجاهل مسؤولية الاحتكار عن الحادث الخطير، فأقرّت بحقيقة أنه «عندما تهيمن ثلاث شركات فقط -مايكروسوفت وأمازون وغوغل- على سوق الحوسبة السحابية، فإن حادثة بسيطة واحدة قد تكون لها عواقب عالمية».
وعلّقت إحدى الصحفيات في أمريكا أيضاً بأنّ: «انقطاع الخدمة اليوم يظهر كيف يمكن لمشكلة واحدة في البرامج ناجمة عن شركة واحدة أو شركتين فقط أن تؤدي إلى إيقاف الرحلات الجوية، وتعطيل أنظمة المستشفيات، ووقف مكالمات الطوارئ، وقطع الوصول إلى الإنترنت في ضربة واحدة... الاعتماد على قلة من الشركات العملاقة على مستوى الاقتصاد يشكل خطراً أساسياً يهدد الأميركيين».
كما دقّ خبراء في الحقوق الرقمية ناقوس الخطر، وأبدى بعضهم انتقادات أكثر جذرية، مثل بريت ويلكنز الذي قال: «لقد حان الوقت منذ فترة طويلة لتفكيك مايكروسوفت وغيرها من احتكارات التكنولوجيا الكبرى، إلى الأبد». مع ذلك، فإنّ هدف تفكيك الاحتكارات العملاقة سيبقى حلماً طوباوياً إذا كان الحالمون به يعتقدون بإمكانية تحقيقه دون المساس بالإمبريالية (أعلى مراحل الرأسمالية)، ولا غرابة في أنّ معظم مشاريع القرارات التي حاول البعض طرحها في أكبر سلطة تشريع إمبريالية (الكونغرس الأمريكي) قد باءت جميعها بالفشل أو تمت عرقلتها، رغم أنها لم تطرح تفكيك الاحتكارات بل «كبح جماحها» و«تشجيع المنافسة»، ولكن الكونغرس مسيطَر عليه من جماعات ضغط ومشرّعين ليسوا أكثر من دمى نصّبتهم هذه الشركات الاحتكارية نفسها.
ومن بين التصريحات التي لاقت صدى وتفاعلاً، بيان أصدره جورج راكيس المدير التنفيذي لمنظمةٍ تشجّع «المنافسة» تسمىNextGen Competition حيث قال:
«لقد تجاهلت مايكروسوفت نقاط الضعف في الأمن السيبراني لسنوات... ورغم كون هذه الاحتكارات ضخمة للغاية لدرجة أنهم لا يسمحون بإفلاسها، إلا أنها خذلتنا مراراً وتكراراً. والآن حان وقت الحساب... إن الانقطاع العالمي الضخم الذي تعاني منه شركة مايكروسوفت اليوم هو نتيجة لاحتكار البرمجيات الذي أصبح نقطة فشل واحدة لجزء كبير من الاقتصاد العالمي... على مدى عقود، أدت استراتيجية مايكروسوفت الاحتكارية إلى منع القطاعين العام والخاص من تنويع قدراتهما في مجال تكنولوجيا المعلومات. ومن المطارات إلى المستشفيات إلى مراكز الاتصال على رقم الطوارئ 911 إلى الأنظمة المالية، يشعر الملايين اليوم بعواقب الجشع والأنانية لدى أحد أكثر المجرمين فظاعةً في شركات التكنولوجيا الكبرى».

عواقب تفضيل الأرباح على قواعد الأمان

في تقرير من 25 صفحة أعدّه سبعة خبراء في أمن المعلومات عام 2003 بعنوان «الأمن السيبراني وتكلفة الاحتكار، الخطر الأمني لهيمنة منتوجات مايكروسوفت»، تحدّثوا عن قوانين علمية هامّة في هذا المجال وكيف أنّ شركة مايكروسوفت قامت بانتهاكها. ومنها مثلاً أنه «فوق عتبة معيّنة لمستوى تعقيد الشيفرة البرمجية، يزداد احتمال أنْ يؤدي إصلاح خطأ معلوم إلى استحداث خطأ آخر مجهول»، وأنّ هذا قانون معروف جيداً ويتم تدريسه في أدبيّات ضبط الجودة العامّة، وهو من بديهيات علم تطوير البرمجيات، ومع ذلك لا تحترمه مايكروسوفت لأنّها تصرّ على ما يوصف بـ«الدمج الصارم» لأنظمة تشغيلها مع تطبيقاتها؛ مثلاً صمّمت برامج مايكروسوفت أوفيس لتعمل احتكارياً على أنظمة تشغيل ويندوز، وليس على لينوكس أو ماكنتوش أو غيرها، مما يؤدي إلى تضخيم حجم الشيفرة لبرامج مايكروسوفت، وهناك قانون علمي معروف بأنّ مستوى «التعقيد» يزداد طرداً مع زيادة «حجم الشيفرة»، وبالتالي يزداد احتمال الأخطاء والأعطال، بينما البرمجيات المماثلة لكن الأصغر في حجم شيفرتها تعتبر أكثر أماناً. كما انتقد الخبراء في تقريرهم إفراط مايكروسوفت في إلزام عملائها بتنصيب حزم تحديثات متلاحقة بتواتر سريع، يصل إلى حزمة كل بضعة أيام، وهذا يأتي على حساب الأمان أيضاً.
وعلى هذا الأساس قدّر الخبراء في تقريرهم بأنّ منتوجات مايكروسوفت أكثر عرضة لمخاطر الأخطاء من أنظمة التشغيل الأخرى بمقدار 15 إلى 35 ضعفاً! وبسبب هذه الانتهاكات تنبّأ التقرير نفسه منذ 2003 بمخاطر انقطاعات في الشبكة مشابهة في بعض تفاصيلها للعطل الذي حدث الجمعة 19 تموز 2024.

لماذا لم تتأثر روسيا والصين؟

قالت بعض التقارير بأنّ الصين لم تتأثر إجمالاً، سوى في بعض الخدمات التجارية الأكثر ارتباطاً بمايكروسوفت وبمصالح أمريكية مثل فندق الشيراتون مثلاً. أما السبب الأساسي الذي أمّن حمايةً في الصين من انقطاع الخدمة فهو أن القوانين التنظيمية الوطنية التي فرضتها الصين ألزمت الخدمات السحابية الأجنبية بأن يتم تشغيلها من شركات وطنية، بما فيها خدمات مايكروسوفت السحابية التي ألزمتها الصين بأن يشغلها شريك وطني محلّي صيني هو شركة (21Vianet) وبشكل منفصل عن البنية التحتية العالمية لمايكروسوفت.
ويجدر بالذكر أنّ الاستقلال التكنولوجي توجّهٌ استراتيجي لدى الحكومة الصينية بقيادة الحزب الشيوعي. وأدخلت الصين مبادئ توجيهية جديدة في آذار 2024 للتخلص التدريجي من المعالجات الدقيقة الأمريكية من شركتي Intel وAMD لأجهزة الكمبيوتر والخوادم الحكومية، والتخلي عن نظام التشغيل (مايكروسوفت ويندوز) بالتحديد، حيث تكثف بكين حملة لاستبدال التكنولوجيا الأجنبية واعتماد بدائل صينية محلية، وخاصة في ظل العقوبات الأمريكية والتوترات الجيوسياسية مع واشنطن. وبحالة الصين ترتبط قضية الاستقلال التكنولوجي بهدف استراتيجي أبعد، رسمه الحزب الشيوعي الصيني هو «التحديث الاشتراكي» حتى العام 2035، وبناء دولة اشتراكية حديثة مزدهرة بحلول منتصف القرن.
وذكر «المركز الصيني لتقييم أمن المعلومات»، بتاريخ 26 كانون الأول 2023، بأنّ من الخدمات الوطنية التي نالت الثقة من الحكومة الصينية تحت تصنيف «المستوى الأول» من حيث السلامة والموثوقية: 6 أنظمة للتشغيل، منها مثلاً منتوج لشركة «كيرين» Galaxy Kirin Desktop Operating System V10 / kernel version 5.4. وكذلك 11 قاعدة بيانات مركزية، منها ما لا يقل عن 5 منتوجات لشركات وطنية في بكّين وواحدة في ووهان، ومنتوج لقواعد البيانات من شركة «علي بابا للحَوسبة السحابية».
بدورها أعلنت وزارة التنمية المعلوماتية الروسية أن العطل التقني الذي ضرب مؤسسات عالمية الجمعة، 19 تموز 2024، لم يمسّ روسيا، مشيرة إلى أن الشلل العالمي يؤكد أهمية الاعتماد على برامج تقنية وطنية والاستعاضة عن الأنظمة الغربية. وأوضح رئيس مجلس إدارة صندوق تنمية الاقتصاد الرقمي الروسي غيرمان كليمينكا أن سبب عدم تأثر روسيا مرتبط بالعقوبات الغربية: «روسيا تخضع للعقوبات وببساطة نحن لا نمتلك هذا البرنامج الغربي الذي تعطل».
كذلك ساهم سعي روسيا المتزايد لتعزيز استقلالها التكنولوجي في حماية شبكاتها من الأضرار المرتبطة بفشل مايكروسوفت الأمني، حيث يتزايد اعتماد روسيا على بدائل وطنية أو أنظمة تشغيل مفتوحة المصدر مثل لينوكس، وخاصة في المرافق الحساسة ومؤسسات الدولة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1184