نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (1) - الاجتماعي والسياسي
كتب أنطونيو غرامشي في الدفتر الرابع من دفاتر سجنه ملحوظة طويلة تبدأ بما يلي: «العلاقات بين القاعدة المادية والبنى الفوقية هي برأيي المسألة الحاسمة في المادية التاريخية. ويمكن العثور على ضالّتنا في هذا الصدد استناداً إلى الأسس التالية: 1- المبدأ القائل بأنّه لا يوجد مجتمع يضع لنفسه مهمات، ما لم تكن الشروط اللازمة والكافية لإنجازها قد وجدت سلفاً [أو في طور الظهور والتطوّر]. 2- ما مِن مجتمعٍ يزول قبل أن يطوَّر أولاً جميع أشكال الحياة المتضمنة في علاقاته الداخلية».
أنطونيو غرامشي
تعريب: د. أسامة دليقان
ويتابع غرامشي ملحوظته فيقول: يمكن من هذه المبادئ اشتقاقُ بعض قواعد المَنهج التاريخيّ. وعند دراسة البنية struttura [القاعدة المادية الاقتصادية للمجتمع، وسنستعمل من الآن فصاعدةً «القاعدة المادّية» ترجمةً لهذه المقولة - المعرّب] يجب التمييز بين الدائم والمرحليّ. إنّ المرحليّ يُعطي ما يستهدفُه النقد السياسيّ، بينما الدائمُ يعطي ما يستهدفُه النقد التاريخي-الاجتماعي. المرحليّ يساعد في تقييم المجموعات والشخصيات السياسية، بينما يساعد الدائم في تقييم التجمّعات الاجتماعية الكبيرة. وتنجلي الأهمّية الكبيرة لهذا التمييز عند إخضاعِ فترة تاريخيّة ما للدراسة. توجد أزمة ما، وقد تستمر لعقود؛ وهذا يعني أنّه برزت إلى النور ضمن القاعدة المادية تناقضاتٌ غير قابلة للعلاج، ومع ذلك تحاول علاجَها جاهدةً تلك القوى السياسية التي تريد المحافَظة على القاعدة المادية نفسها – تحاول علاجها ضمن حدود معيّنة. وتُبذَل هذه الجهود بإصرار ومثابرة (فما مِن تشكيلةٍ اجتماعية على الإطلاق ترغب بالاعتراف بأنّه قد عفا عليها الزمن)، وتُشكّل هذه الجهود ميداناً لما هو «مرحليّ» والذي يحصل فيه تنظيم هذه القوى التي «تسعى» -(من خلال انتصارها الخاص في آخر تحليل، ولكن في المدى المباشر من خلال جدالات إيديولوجيّة، ودينيّة، وفلسفية، وسياسية، وقضائية، إلخ)- لإقامة البرهان على أنّ «الشروط الضرورية والكافية موجودة سلفاً لجعل إنجاز مهمّات معيَّنة أمراً ممكناً تاريخياً، وبالتالي إلزامياً».
الخلط بين الدائم والمرحليّ في التحليل التاريخي
ويكمن أحد الأخطاء المتكررة في التحليل التاريخي في العجز عن العثور على العلاقة بين «الدائم» و«المرحليّ»؛ وبنتيجة ذلك يتم تقديم الأسباب البعيدة كما لو كانت الأسباب المباشرة، أو يُقال إنّ الأسباب المباشرة هي الأسباب الفاعلة الوحيدة. فعلى مقلَبٍ يكون هناك فيضٌ من «الاقتصادويّة» وعلى المقلب الآخر فيضٌ من «الإيديولوجيّة»؛ أحد الجانبين يبالغ في الأسباب الميكانيكية والآخر يبالغ في العنصر «الإرادويّ» والفرديّ. أما الرابطة الديالكتيكية بين هذين النوعين من البحث، فلا تُرسى بدقة كما ينبغي. ومن الواضح أنه إذا كان هذا خطأً جسيماً في التأريخ، فإنه يصبح خطأً أفدَحَ في الصحافة السياسية؛ حيث لا تكون القضيةُ إعادةَ بناء التاريخ الماضي، بل بناء التاريخ الحاضر والمستقبل. وهكذا تَحِلُّ رغباتُ المرء الشخصية محلَّ التحليل غير المنحاز، ولا يحدث هذا بوصفه «وسيلة» للتحفيز بل بوصفه خداعاً للذات - الأفعى تعضُّ الحاوي، وبتعبير آخر يكون الديماغوجي هو أوّل ضحية لديماغوجيّته.
ولا تكتسب هذه المعايير المنهجية أهمّيتها الكاملة إلا إذا طُبِّقَتْ على تحليل دراسات تاريخية ملموسة. [بعد ذلك يتناول غرامشي، في نحو عشرين سطراً، مثالَ فرنسا منذ الثورة البرجوازية حتى كومونة باريس]. إنّ دراسة هذه «الموجات» المتقلّبة والمتفاوتة في المدّة، هو ما يجعل من الممكن تحديد العلاقات بين القاعدة المادية والبنيان الفوقي من جهة، وبين ما يمكن تسميته العناصر الدائمة والعناصر «المرحليّة» في القاعدة المادية، من جهة أخرى. وفي غضون ذلك، يمكن القول إنّ الوساطة الديالكتيكية بين مبدأي المادية التاريخية المذكورَين في مَطلع هذه الملحوظة، تُشكِّل مفهوم الثورة الدائمة. [لا يقصد غرامشي هنا «الثورة الدائمة» لدى تروتسكي، حيث كان غرامشي ناقداً لتروتسكي - المعرِّب].
ضرورة التحديد الملموس لـ«ميزان القوى
أحدُ الجوانب الأخرى للمسألة نفسها قضيةُ نسبة القوى كما تُدعى [أو علاقة القوى، وسنستعمل من الآن تعبير «ميزان القوى» المألوف أكثر، علماً أنّ تعبير غرامشي في الإيطالية هو rapport di forze ومقابله بالإنكليزية relation of forces - المُعرِّب]. ففي هذه السرديّات التاريخية، يقرأ المرء غالباً التعبير العامّ التالي: «ميزان قوى» مؤاتٍ أو غير مؤاتٍ. إذاً بشكله المجرَّد، لا يفسّر هذا التعبير شيئاً، أو بالكاد يفسِّر؛ حيث يُكتَفى بتكرار الكلام عن الواقعة التي تحتاج تفسيراً، فيكون الناتج حشواً. الخطأ النظريّ يكمن في تقديم مبدأ من مبادئ البحث والتفسير على أنّه «سببٌ تاريخيّ». بينما الواجب، عند استعمال تعبير «ميزان القوى» أنْ يميّز المرء بين لحظات، أو مستويات مختلفة، والتي يمكن أنّ نركّز على ثلاثٍ منها، كما أعتقد:
ميزان القوى: من الاجتماعي إلى السياسي
1- هناك ميزان القوى الاجتماعي ذو الصلة الوثيقة بالقاعدة المادية؛ إنه علاقة موضوعية، واقعةٌ «طبيعيّاتية» يمكن قياسها ضمن منظومة من العلوم الدقيقة أو الرياضيّاتية. تتشكل القوى الاجتماعية المختلفة على قاعدة مستوى تطوّر قوى الإنتاج المادية، وكل واحدة من هذه المجموعات تمثّل وظيفةً وموقعاً ضمن الإنتاج نفسه. هذا الاصطفافٌ الأساسيّ للقوى الاجتماعية يتيح إمكانية تفحُّص فيما إذا كانت الشروط اللازمة والكافية موجودةً في مجتمعٍ ما من أجل تغييره؛ إنه يُتيح التحقق من درجة واقعية ومعقولية الإيديولوجيات المختلفة التي تُولَد على أرضها الخاصة، على تربة التناقضات التي أنبتَـتْها في سياق التطوُّر.
2- اللحظة اللاحقة هي «ميزان القوى» السياسيّ؛ حيث ينبغي تقييم درجة التجانس والوعي الذاتيّ التي وصلت إليها مختلَفُ المجموعات الاجتماعية. ويمكن تقسيم هذه «اللحظة» بدورها إلى لحظات مختلفة، تبعاً للمستويات المختلفة للوعي السياسي كما تتجلّى في التاريخ حتى الآن. وإنّ أُولى هذه اللحظات وأكثرها جنينيّةً هي اللحظة الاقتصادية البدائية: تاجرٌ يشعر أنه في علاقة تضامنٍ مع تاجرٍ آخر، وصناعيٌّ متضامنٌ مع صناعيّ آخر، إلخ. ولكنَّ التاجر في تلك اللحظة لا يكون قد شعر بَعدُ بالتضامن مع الصناعيّ؛ وبتعبير آخر، ثمّة إدراكٌ للوحدة المتجانسة للمجموعة المهنيّة، ولكن ليس هناك بَعدُ إدراكٌ كهذا لدى المجموعة الاجتماعية. وفي لحظةٍ ثانية، يتم التوصُّل إلى وعيٍ بتضامن المصالح بين جميع أفراد المجموعة الاجتماعية - ولكنه ما يزال في الميدان الاقتصاديّ الصِّرف. وخلال هذا الطَّور الاقتصادي-السياسي، تُطرَح قضيّة الدولة، ولكنْ من حيث المساواة السياسية البدائية فقط؛ فهناك الحقّ بالمشاركة، والتعديل والإصلاح، في الإدارة والتشريع ضمن الإطار العام القائم. وتأتي لحظةٌ ثالثة، يصبح المرء فيها واعياً بواقع أنَّ مَصالحه «الفئويّة»، في تطوّرها الحاضر والمستقبليّ، تمتدّ أبعد من حدود «الفئة» نفسها -بمعنى أنّها تتخطّى حدود المجموعة الاقتصادية- وأنّ بإمكانها، بل ويجب عليها، أن تصبح مَصالحَ للمجموعات المَحكومة (subordinare) الأخرى. وهذه هي المرحلة «السياسيّة» الأكثر جلاءً، التي تميّز الانتقال الواضح مِن القاعدة المادية إلى بنىً فوقيّة (sovrastrutture) معقَّدة؛ إنه الطَّور الذي تدخل فيه الإيديولوجيّات، التي أنتشَتْ بذورُها سابقاً، في تماسٍّ ومُجابهةٍ فيما بينها، حتى تميلَ واحدةٌ منها فقط -أو على الأقل توليفةٌ واحدةٌ لعددٍ منها- إلى الغَلَبَة والسيادة، والانتشار عبر الحقل بأكمله، جالبةً معها، إضافةً إلى الوحدة الاقتصادية والسياسية، وحدةً فكريّة ومعنويّة أخلاقيّة، ليس على مستوى فئويّ، بل شامل؛ هيمنة مجموعة اجتماعية أساسيّة على مجموعاتٍ محكومة. ويُنظَرُ إلى الحكومة-الدولة بوصفها العضويّة الخاصّة بمجموعةٍ ما، من أجل خلق التربة الملائمة لتوسيع المجموعة نفسِها إلى أقصى حدّ. ولكن هذا التطوّر وهذا التوسُّع يُنظَر إليهما كذلك بشكلٍ ملموس بوصفهما شاملَين؛ أيْ بوصفهما مرتبطَين بمصالح المجموعات المحكومة؛ كتطوّرٍ لتوازنات غير مستقرّة بين مصالح المجموعات الأساسية ومصالح المجموعات المحكومة التي تغلب فيها مصالحُ المجموعة الأساسية، ولكن إلى حدٍّ معيَّن فقط؛ أيْ دون المضيّ بها بعيداً جداً إلى درجة الأنانية الاقتصادية الفئويّة. في التاريخ الواقعي، تصبح هذه اللحظات متشابكةً فيما بينها، أفقياً وعمودياً؛ أيْ مِن خلال النشاط الاقتصادي (أفقياً) والأرض (عموديّاً)، مؤتلِفةً ومتفارقةً بطرقٍ شتّى. وقد تجد كلّ واحدة من هذه التوليفات تعبيرَها المُنظَّم الممثِّل لها اقتصاديّاً وسياسياً. ومن الضروري أن يظلّ حاضراً في الذهن أيضاً أنّ العلاقات الدُّوليّة تصبح متداخلةً مع هذه العلاقات الداخلية للدولة-الأمّة، وأنّ هذا بدوره يخلق توليفاتٍ فريدةً وملموسةً تاريخياً. فإنّ إيديولوجيا ما، وُلدَتْ في بلدٍ عالي التطوّر، تتغلغلُ في بلدٍ أقلّ تطوّراً وتملك تأثيراً على التفاعل المحلّي للتوليفات. (الدين، مثلاً، كان دوماً أحد المصادر لمثل هذه التوليفات الإيديولوجية-السياسية، المحلّية-العالَمية؛ وإلى جانبه التشكيلات العالمية الأخرى، كالـ«المثقفين» عموماً، والماسونيّين الأحرار، ونادي الروتاري، واليهود، والدبلوماسية الدُّولية التي ترسم مشاريع حلولٍ سياسية في بلدانٍ معيَّنة أو تحاول أن تفرِضَها فرضاً، إلخ. وهؤلاء يمكن تضمينهم في مقولة «المثقفين» العامة نفسها [...]). تصبح هذه العلاقة بين القوى الدوليّة والداخلية أكثر تعقيداً بفعل واقع وجود عدد من القطاعات الإقليمية الداخلية ضمن كلّ بلد لها قواعد مادّية مختلفة وموازين قوى متنوّعة على كلّ المستويات.
لقراءة الجزء الثاني من المقال: نظرية ميزان القوى لدى غرامشي (2) - الميزان العسكري
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1186