ماركس ضدّ تشومسكي (2) - موجز للنظرية الماركسية في نشوء اللغة
سنعرض فيما يلي أبرز الموضوعات حول اللغة ونشوئها كما قدّمها ماركس وإنجلس ومن بعدهم عدة علماء ماركسيين وخاصةً من مدرسة فيغوتسكي-لوريا-ليونتييف. كان أليكسي أليكسيفيتش ليونتييف (1931–2007) عالماً في اللغة والسيميائيّات (علم الإشارات والرموز ومعانيها). أما أليكسي نيكولايفيتش ليونتييف (1903–1979) فكان عالم نفس تطوّري سوفييتي، وأحد مؤسسي «نظرية النشاط». وكلاهما من تلاميذ فيغوتسكي (1896–1934) صاحب «النظرية الثقافية التاريخية». كما كان العالم السوفييتي ألكسندر رومانوفيتش لوريا (1902–1977) أبا علم النفس العصبي الحديث ومساهماً بتأسيس «علم النفس الثقافي التاريخي» كمُعاوِن لليف فيغوتسكي.
إنّ «اللغة قديمة قدم الوعي» وهي «الوعي العَمليّ الواقعي» للجماعة وبالتالي للفرد (ماركس وإنجلس، الإيديولوجيا الألمانية 1846). والقدرة على عزْل ظاهرةٍ ما بشكلٍ واعٍ (التجريد والتعميم) هو شرطٌ لإمكانيّة ترميزها بحيث تعكسها «مرآة» اللغة، معزِّزَةً محتواها المُحوَّل إلى «إشارة» أو «دالٍّ» في الكلام. وهذا يحدث أصلاً في نشاط العمل، في الإنتاج، كما يشرح ماركس في مخطوطٍ كتبه عام 1881 (قبل وفاته بعامين) ردّاً على أدولف فاغنر، أحد النقّاد البرجوازيين لكتاب ماركس (رأس المال):
«يبدأ البشر، كأيّ حيوان، بالأكل والشرب [...] يتصرفون بنشاط منتفعين بأشياء معيّنة من العالم الخارجي عبر الفِعل، مشبِعين بذلك حاجاتهم. إنهم إذاً يبدؤون مع الإنتاج. وعبر تكرار هذه العملية، تصبح قدرة هذه الأشياء على إشباع حاجاتهم مطبوعةً على أدمغتهم [...] وعند مرحلة معيّنة... بعد زيادةٍ وتطوّرٍ أكبر في حاجاتهم والنشاطات التي تلبّيها، سوف يُعمِّدون باللّغة فئاتٍ بأكملها من هذه الأشياء التي ميّزوها بالتجربة عن باقي العالم الخارجي. وهذا لا بد أن يحدث، كما في عملية الإنتاج [...] بينما هم منخرطون باستمرار في اتصال فعّال فيما بينهم ومع هذه الأشياء [...] ولكن يافطة التسمية اللسانية هذه تعبّر ببساطة في هيئة مفهوم عمّا قد حوّله سَلفاً النشاطُ المتكرر إلى تجربة؛ ألا وهو أنّ أشياء خارجية معيّنة تخدم إشباع حاجات البشر الذين يعيشون سَلفاً في سياق اجتماعيّ معيَّن، وهذا شرط مسبق ضروري بالنسبة للّغة [...] إنهم لا يتعاملون مع هذه الأشياء عملياً فحسب كوسائل لإشباع حاجاتهم، بل ويشيرون إليها بوصفها كذلك أيضاً في أفكارهم ومِن ثمّ لسانيّاً...».
بعض الأطروحات الماركسية في علم اللغة
العمل حوَّل أسلاف البشر الأشبه بالحيوانات إلى بشر. «فالعمل بالذات هو الذي خلقَ الإنسان» (إنجلس).
أبرز محطات الارتقاء البيولوجي الممهّد لظهور الإنسان العامل: 1-انتقال القردة العليا إلى المشية المنتصبة. 2-عيش أسلاف الإنسان في مجموعات ذات درجة كافية من تطوّر الحياة المشتركة. 3-وجود أشكال متطورة جداً من الانعكاس النفسي للواقع لدى تلك الحيوانات.
للعمل البشري خواص نوعية: 1-استعمال وصناعة الأدوات، أما الحيوان فيستخدم «وسائل خارجية» لأنه: أ- لا يستخدمها إلّا قليلاً، ب- بطرق لا تملك طابع عملية اجتماعية، ج- لا يستطيع بواسطتها خلق عمليات جديدة. 2-الإنسان ينفذ العمل منذ البداية بشروط نشاط تعاوني مشترك، مع تقسيم تقنيٍّ للعمل بين الأفراد مهما كان بدائياً وتصادفياً في البداية.
العملُ ثم الكلام حرّضا تحول دماغ القرد تدريجياً إلى دماغ الإنسان، الأضخم حجماً والأكثر تعقيداً، وساهم في ذلك اكتشافُ النار وتحسن التغذية بالبروتين والدسم.
«إنّ العمل الذي قام مع كلّ عملية جديدة، بتكييف وراثة العضلات والأربطة، والعظام بعد فترة أطول [...] والتوظيف المتجدّد دوماً لهذه الدقّة الموروثة في أداء أشغالٍ جديدة متزايدة التعقيد - قد أعطى يد الإنسان الدرجةَ العالية من الإتقان المطلوبة لتَستحضر إلى الوجود لوحات رافائيلي، ومنحوتات ثورفالدسن، وموسيقى باغانيني». (إنجلس).
توسّعت في القشرة المخية للإنسان المساحة التي تحتلها تمثيلات أعضاء كاليد وأعضاء الكلام (عضلات الفم واللسان وبُنى الحنجرة) والتي تطوّرت وظائفها كثيراً في شروط المجتمع البشري (العمل، والتواصل الكلامي) وكذلك تطورت أعضاء الحواس. ثم حمل هذا التطوّر البيولوجي بدوره تأثيراً إيجابياً على دوافعه الاجتماعية (العمل والكلام) مطوّراً إيّاهما أكثر.
في المرحلة الأولى لنشوء اللغة بحسب أ.ن. ليونتييف، كانت أولى وظائف «الكلام» تتعلق بالتخطيط والتنظيم والتحكم بالنشاط الجماعي، أي بـ«طور التحضير» لتطبيق كلّ نشاط عمل، ما شكَّلَ الجانب «النظري» من العمل في تمايز عن «التطبيقي»، ولو أنه جانبٌ نظريٌّ كان ما يزال مندمجاً في «العِشرة الصوتية». و«العِشْرة» عموماً (Verkehr بالألمانية) مقولة استخدمها ماركس وإنجلس مراراً في «الإيديولوجيا الألمانية» ومن معانيها: التواصل، المعاشرة (بما فيها الجنسية)، التبادل، التداول، النقل.
وفي المرحلة الثانية بحسب أ.ن. ليونتييف انفصلت أفعال العمل عن أفعال العِشرة، فحركة عملٍ معيَّنة حتى عندما لا تؤدّي إلى نتيجتها العملية تظلّ قادرةً على التأثير في المنتِجين الآخرين. فنشأ نوعٌ من الحركات احتفظت بشكلها كحركات عمل وفقدت التماسّ العملي مع موضوع العمل وما يرافقه من مجهودٍ. ومعها انفصلت الأصوات الخارجة من الفم التي كانت ترافق سابقاً حركات العمل، واحتفظت بوظيفة التأثير على الناس فقط؛ أي «العِشْرة بالكلام». لقد تحوّلت إلى «إيماءات»، فالإيماءة ليست سوى حركةٍ انفصلت عن نتيجتها ولم تعد تُطبَّق على الموضوع الذي كانت تستهدفه. ثم انتقل الدور الرئيس في العِشرة من الإيماءات إلى الأصوات الملفوظة، وبذلك نشأ «الكلام المنطوق».
نشوء «الكلام الداخلي»: استقلّ تنظيم الإنتاج وتبادله (بما في ذلك عبر التأثير بالكلام على الآخرين) ما شكّل الشرطَ التاريخي لانفصال وظيفة الكلام النظرية المعرفية عن وظيفته المتعلقة بالعِشرة. فتلقّى الكلام حافزاً للاستقلال النسبيّ، وأدى تطوُّرُ تقسيم العمل واستقلال نشاطٍ عقليٍّ معيَّن إلى جعل شكل اللغة الموجَّه للخارج (أي الكلام لإسماع الآخرين) أمراً اختيارياً وحتى غير ضروري، ما أكسب اللغة طابع عمليات داخلية بحتة «للتفكير الكلاميّ». فتكوّنت الأشكال الكلامية الداخلية كمجموعة خاصة من العمليات العقلية ليست صوتيّةً إلّا في بنيتها المؤلَّفة من معانٍ لغوية قابلة للفصل عن التأثير المباشر للشيء الذي تعنيه. (أ. ن. ليونتييف). وفي نظرية فيغوتسكي يبدأ تطوّر الكلام لدى الطفل بالكلام الخارجي (الاجتماعي) ثمّ الكلام مع نفسه بصوت مسموع، ثم الكلام الداخلي الصامت الذي يبدو أنه مادّة التفكير الأساسية، ولا يبدأ التفكير بواسطة (المفاهيم) إلا بعد البلوغ.
ستالين حول اللغة
كتب ستالين عام 1950 ثلاث مقالات في البرافدا حول الماركسية في علم اللغة. نكتفي منها بموضوعتين:
1- لا يمكن تصنيف اللغة كبناء تحتي ولا فوقي ولا كظاهرة بينهما لأن لا وجود لمثل هذه الظواهر الوسيطة. واللغة تشبه أدوات الإنتاج من حيث إمكانية خدمة طبقات المجتمع المختلفة قديمها وحديثها، ولكنها تختلف عن أدوات الإنتاج أيضاً بأنها لا تقدّم ثروةً مادّية. ويمكن فهم ستالين هنا بأنه قصد إمكانية الحصول المباشر على منتوج مادّي، حيث يمكن ذلك بتشغيل أدوات الإنتاج، لكنه غير ممكن بمجرّد اللغة لوحدها، تماماً مثلما أن الفكر لوحده مهما كان عظيماً لن يثمر لوحده نتاجاً مادياً إلا عبر وسائل إنتاج مادية – حتى ولو كانت منبراً بسيطاً أو ورقاً وحبراً أوكمبيوتراً...إلخ.
2- «يُقال إنّ الأفكار تنشأ في عقل الإنسان قبل التعبير عنها في الكلام، بأنّها تنشأ بلا مادّة لغوية، بلا غطاء لغوي، بشكلٍ عارٍ إذا صح التعبير. ولكن هذا خطأ بالمطلق. فأيّاً كانت الأفكار التي تنشأ في عقل الإنسان وبأية لحظة، فإنها لا يمكن أن تنشأ وتوجد إلا على أساس المادّة اللغوية، على أساس المصطلحات والعبارات اللغوية. ولا وجود لأفكار عارية، حرّة من المادة اللغوية، حرة من (المادة الطبيعية) للغة. (اللغة هي الواقع المباشر للفكر) كما قال ماركس. واقع الفكر يتجلّى في اللغة. والمثاليون وحدَهم من يستطيعون الحديث عن تفكير غير مرتبط بـ(المادة الطبيعية) للغة، عن التفكير دون لغة».
ويجدر بالذكر أنّ ستالين أورد هذه القطعة أعلاه في سياق انتقاده للتنظيرات المثالية في اللسانيات التي وقع فيها بعض علماء اللغة في الاتحاد السوفييتي آنذاك، وخاصةً (نيقولاي مار). كما يمكن فهمها في سياق ارتباطها أيضاً بانتقاد ستالين في المقالات نفسها لمن يتذرّعون بحالات الصمّ والبكم في الزعم بوجود تفكيرٍ بلا لغة لديهم. بينما ردّ ستالين عليهم بما يلي: «إنّ أفكار الصم والبكم تظهر وتقوم فقط على أساس الصور والإحساسات والمفاهيم التي شكلوها في الحياة اليومية، على موضوعات العالم الخارجي، وعلاقتها بأنفسهم، فالفضل يعود إلى البصر واللمس والذوق والشم. ودون هذه الصور والإحساسات والمفاهيم يكون الفكر خاوياً، وبعيداً عن كلّ مضمون، أي ليس له وجود».
ولعل بالإمكان تكوين فهم أفضل لماهيّة الحوامل المادّية الممكنة للغة بتوسيع فهمنا لمعنى «الكلام» كما نجده في التوضيح التالي من فيغوتسكي: «الكلام لا يُوجد في أشكال صوتية فقط. فالصمّ والبكم ابتكروا واستعملوا شكلاً بصرياً من الكلام. يتم تعليم الأطفال الصم والبكم أنْ يفهموا كلامنا عبر قراءة حركة الشفاه. وكما بيّن ليفي-برول عام 1922، يوجد لدى شعوب بدائية كلامٌ إيمائيّ إلى جانب الكلام الصوتيّ ويلعب دوراً هامّاً لديهم. يجب أن نتذكّر أيضاً بأنّ الكلام ليس مرتبطاً بالضرورة بنوعٍ خاص من الحوامل المادّية؛ لنأخذ الكلام المكتوب مثلاً. وكما يشير يركيس، قد يكون ممكناً تعليم الشمبانزي استعمال أصابعه في التواصل بطريقة مشابهة لاستعمال لغة الإشارة لدى الصم والبكم».
لقراءة الجزء الأول من المقال:( ماركس ضدّ تشومسكي (1) - اللغة نتاجٌ اجتماعيّ لا «فطرة بيولوجيّة» )
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1183