ماركس ضدّ تشومسكي (1) - اللغة نتاجٌ اجتماعيّ لا «فطرة بيولوجيّة»
أنكر تشومسكي أيّ دور اجتماعي في نشوء اللغة، مفترضاً ظهورها «كطفرة» بيولوجية وراثية «حدثت لدى فردٍ واحد وليس لدى مجموعة... فامتلك ذلك الفرد [البدائي] القدرة على أن يقوم بما نقوم به الآن داخلياً ولكن دون التعبير عنه خارجياً، لأنه لم يكن ثمة أحدٌ غيره ليتكلّم معه...». وهكذا لم تقتصر نسخة تشومسكي من «التكوين» على أنّه «في البدء كانت الكلمة» بل وكان البشريُّ الوحيد العارف بالكلمة إمّا آدم فقط أو حوّاء فقط، بحسب أيّهما نُفِخَت فيه «طفرة اللغة». وعلى النقيض تماماً من أسطورة تشومسكي البيولوجية، كان إنجلس قد استنتج عام 1876 بأنّ اللغة نشأت بالأساس من حاجة البشر البدائيين «إلى أن يقول بعضهم لبعضٍ شيئاً» في سياق «دور العمل في تحوّل القرد إلى إنسان». وكتب ماركس وإنجلس في أحد أبكر أعمالهما - الإيديولوجيا الألمانيّة 1846: «اللغة قديمة قدم الوعي، إنها الوعي العَمليّ الواقعي الموجود من أجل البشر الآخرين أيضاً، وبفضل هذا فقط يكون موجوداً كذلك من أجلي».
أجرى الكاتب والصحفي الهندي فيد باركاش ميهتا في مطلع السبعينيات حواراً مطوّلاً مع تشومسكي، وثّقه هذا الأوّل في كتابه المنشور عام 1971 بعنوان «جون سهلُ الإرضاء: لقاءات مع الكلمة المكتوبة والمحكيّة». وسأله المحاوِر (ص209): «هل قمتَ بأيّ تجارب مع الأطفال لكي تتعلّم كيف يكتسبون اللغة؟»، فأجاب تشومسكي: «لا. أنا أكره التجارب! أعتقد أنه حتى دون إجراء أيّ تجربة، يمكنكَ استنتاج بعض الأشياء المدهشة تماماً حول ما يحدث مِن كلّ بُدّ في عقل الطفل الرضيع، إذْ لا بدّ أنّه يعرف قواعد اللغة وشروطَها قبل أن يتعلَّم أيَّ لغة».
يصنّف بعض النقّاد الماركسيين فرضية تشومسكي عن ماهيّة اللغة بأنها ضَربٌ من «الحتمية البيولوجية» المثالية. وفيما يلي نعرض ثلاثة مزاعم رئيسة لفرضيته هذه، ثم نختم ببعض الأدلة المضادّة لها.
1- اللغة طَفرة بيولوجيّة
يقول تشومسكي في إحدى محاضراته (2016): «لم يطرأ على اللغة أيّ تطوّر على الإطلاق منذ 50 ألف سنة - أيْ منذ غادر البشر إفريقيا وانتشروا عبر العالَم». وأن نشوء اللغة حدث «عبر انفجار مفاجئ جداً في التمثيل الرمزي... ولم يحدث شيء بعد ذلك»، وأنّ علينا البحث عن سبب نشوء اللغة في «آلية بيولوجيةٍ ما، لم تُكتَشَف بعد... في طفرةٍ ما، تسبّبت بإعادة تشبيك الدماغ rewiring مما أنتج هذه الآلية الحَوسبية التي سمحت بحدوث ذلك [بنشوء اللغة]... إنّ إعادة توصيل شبكات الدماغ؛ هذه الطفرة إنما حدثت لدى فردٍ واحد وليس لدى مجموعة...»، ثم انتشرت سلاسة ذلك الفرد لتعطي البشر الناطقين.
2- اللغة فِطرة «بيولوجية-حاسوبية» و«تنمو» بلا تعلُّم
في كتابه «قوى وآفاق، تأملات في الطبيعة والنظام الاجتماعي» 1996، ص16–17، كتب تشومسكي ما يلي: «يبدو راسخاً اليوم على نحو معقول وجود مكوِّن خاص في الدماغ البشري مُسخَّرٌ خصّيصاً للغة، ولنطلق عليه (مَلَكَة اللغة) the language faculty، بحيث إنّ هذه المنظومة الفرعية الدماغية (أو العقل من المنظور المجرَّد) تملك حالةً بدئية مُحدَّدة وراثياً، كبقية مكونات الجسم: الكلية، جهاز الدوران، إلخ». ثمّ يصف تشومسكي اللغة بأنها «هِبة بيولوجية» ويتابع: «مَلَكة اللغة تتحوَّل عن حالتها البدئية خلال الحياة الباكرة، كما هو الحال بالنسبة لباقي الأجهزة البيولوجية. إنها (تنمو) من الحالة البدئية خلال الطفولة، وتصل إلى استقرار نسبي عند مرحلة ما من النضج. وهذه هي عملية اكتساب اللغة، والتي يُطلَق عليها أحياناً على نحو مضلّل اسم (تعلُّم اللغة)؛ في حين لا يبدو أنّ العملية تحمل سوى شبه قليل بما يُدعى (تعلّماً)... وتتطور الأعضاء الأخرى بطريقة مماثلة. وتنطوي الحالة المستقرة [التي تبلغها مَلَكة اللغة في نموها لدى الطفل] على إجراءٍ حاسوبيّ (توليديّ) يتصف بعدد لا نهائي من التعابير الممكنة... ويمكننا على نحو معقول إطلاق تسمية (لغة) على الإجراء الحاسوبي نفسه...».
3- التواصل ليس وظيفة هامّة للّغة
في كتابه «أيّ نوعٍ من المخلوقات نحن؟»، 2016، ص15-16، يكتب تشومسكي: «من الغريب في المقام الأول أن نفكّر بأنّ هناك هدفاً للّغة... إنّ اللغات ليست أدواتٍ يُصمّمها البشر، بل أشياء بيولوجية، مثلها مثل الجهاز البصري أو المناعي أو الهضمي [...] وحتى لو جرى استعمال اللغة للتواصل فلا حاجة للتشارك بالمعاني (أو الأصوات أو البُنى) [...] وحتى لو جرى استعمال مصطلح (التواصل) كغطاء للتفاعل الاجتماعي بمختلف أنواعه، فإنه يبقى جزءاً صغيراً ثانوياً من الاستعمال الفعلي للّغة [...] ولكن الخصائص الأساسية لتصميم اللغة تشير إلى صوابيّة الإرث الغني من التقاليد التي اعتبرت اللغة بالأساس أداةً للتفكير».
تشومسكي يعترف بوظيفة اللغة في التفكير ولكن لماذا يهمّش بهذا الإصرار وظيفتها في التواصل الاجتماعي؟ ربما حرصاً على إنقاذ فرضيته حول الطابع «البيولوجي الغريزي» للّغة. أمّا إبراز وظيفة التواصل الاجتماعي للّغة والبحث العلمي في هذه الوظيفة بالذات فمن شأنه تهديد فرضية تشومسكي، وفتح الباب بالمقابل نحو العودة إلى التصوّر المادي التاريخي (الماركسي) لمنشأ اللغة بأنه اجتماعي وليس محض بيولوجي أو فطريّ، مع عدم إنكار الماركسية للتطوّرات التشريحية والفيزيولوجية لدماغ الإنسان بوصفه كائناً مفكّراً ناطقاً، ولكن لا يمكن اختزال الوعي واللغة بهذا المستوى البيولوجي. وسنعرض في مقالٍ لاحق موجزاً عن النظرية الماركسية في نشوء اللغة ووظائفها.
أدلة مضادّة لفرضية «القواعد العامة الفطرية»
لدعم فرضيته عن وجود ما يسمّيه «قواعد لغوية عامّة فطرية» Universal Grammar مشتركة بين جميع اللغات، يكرّر تشومسكي الحجة التالية، بصيغة أو بأخرى: لو لم يكن لدى أطفال البشر قواعد فطرية لغوية عامة لما كان لديهم هذه القدرة المدهشة على اكتساب اللغة «بسرعة وسهولة» وعبر «الحدّ الأدنى من التعرّض» للّغة.
وتسمّى هذه الحجّة أحياناً بـ«فقر الحافِز»؛ بمعنى أنّه حتى بأدنى تحفيز للطفل خارجياً (بأدنى تواصل ولعب وتربية وتعليم) فإنّ اللغة «تنمو» لديه على حد زعم تشومسكي. ونجد لدى تشومسكي تعبيرات أخرى تصب في الفكرة نفسها مثل قوله: «اللغة شيء داخليّ تطوَّر في الرأس دون أيّ ضغط خارجي».
تعرّضت فرضية تشومسكي لانتقادات كثيرة جاءت بحججٍ مضادّة، يمكننا إيراد بعضها. ففي ورقة بحثية في مجلة «تخوم في علم النفس»، 23 حزيران 2015، بعنوان «ما هي بالضبط القواعد اللغوية العامّة، وهل رآها أيّ أحد؟»، تذكر الباحثة البريطانية إيفا دابروفسكا حجّتين مضادّتين على الأقل:
أولاً- ليس صحيحاً أن الأطفال في ظروف التربية الاعتيادية يتعرضون إلى «حوافز فقيرة» لغوياً، وخاصة أنّ اكتساب اللغة يبدأ على الأقل بعمر السنة الأولى وينتهي بالسنة الخامسة، فحتى لو تعرضوا يومياً إلى 8 ساعات فقط من اللغة، فهذا يعني 11680 ساعة. وبافتراض 3600 كلمة واردة إلى مسامعهم في الساعة، فإنّ إجمالي ما يتعرض له الطفل يصل إلى أكثر من 42 مليون كلمة على مدى 4 سنوات متواصلة من عمره.
ثانياً- مجرّد «التعرض» لوحده لا يكفي إذا لم يكن هناك تواصل سليم وفعّال. وتستشهد دابروفسكا خصوصاً بعدة تجارب على أطفال سليمي السمع ولكن لآباء صُمّ، ومنها تجربة تعود إلى العام 1981، حيث عاش أحد الأطفال، ويدعى جيم، طفولته الباكرة في ظروف لم يحظَ فيها سوى بالقليل من التواصل مع بالغين ذوي سمع سليم، رغم أنّه شاهد التلفاز بشكل متكرر، ولعب أحياناً مع أطفال أسوياء السمع. وكان والداه يستعملان لغة الإشارة في التواصل بينهما ولكن ليس في تواصلهما مع الطفل. وفي عمر ثلاث سنوات وتسعة أشهر كان لدى جيم استيعاب ضعيف جداً للغة المنطوقة، ومشكلات شديدة في مخارج الحروف. وكانت تعبيراته المنطوقة قصيرة جداً وبمستوى متأخر في تطورها بمقدار سنة كاملة نسبةً إلى عمره، كما أنّ كثيراً منها تشذّ عن قواعد اللغة الإنكليزية السليمة. وحتى لغة الإشارة لم يكتسبها مطلقاً رغم مشاهدته لأبويه يتواصلان باستخدامها وذلك لأنهما لم يتواصلا معه بواسطتها.
ولعلّ أهم ما لاحظته تلك التجربة هو أن لغة الطفل المنطوقة سرعان ما تحسّنت بمجرّد أن بدأ يتفاعل ويتواصل مباشرةً مع البالغين وجهاً لوجه، بحيث عندما بلغ السادسة و11 شهراً تحسّن أداؤه إلى ما فوق المتوسط بالنسبة لأقرانه في العمر. وتدلّنا هذه التجربة على أن الطفل لم يكن معاقاً لغوياً ولا بيولوجياً، ومع ذلك لم تستطع أيّ قدرات بيولوجية «فطرية» سليمة لديه أن تحميه من التخلّف باكتساب اللغة، لأنّ شرطاً ضرورياً في اكتسابها كان ناقصاً: إنّه التواصل الاجتماعي المباشر، هذا الشرط الذي همّشَهُ تشومسكي.
لقراءة الجزء الثاني من المقال: (ماركس ضدّ تشومسكي (2) - موجز للنظرية الماركسية في نشوء اللغة)
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1182