قطع الكهرباء في سورية وآثاره المادية والنفسية
تقول المعلومات الإحصائية المتوفرة بأنّ الحاجة إلى الكهرباء ارتفعت لتحتل المرتبة الثالثة على قائمة أولويات الحاجات الملحة لدى السوريين اعتباراً من العام 2021 على الأقل، وذلك مباشرةً بعد الحاجة إلى الغذاء التي احتلت المرتبة الأولى، والحاجة إلى الدعم المعيشي التي احتلت المرتبة الثانية. وهذا الترتيب بحسب ما أفاد به 47% من المقيمين في سورية، و39% من العائدين بعد التهجير، و37% من النازحين داخلياً القاطنين خارج مخيمات النزوح الداخلي في سورية.
هذه الإحصائية كانت قد نشرت في تقرير صادر في آذار 2022 عن «الفريق القُطري للاستجابة الإنسانية في سورية» التابع للأمم المتحدة وتحت عنوان «الوصول إلى الكهرباء والاحتياجات الإنسانية».
وبحسب بيانات البنك الدولي (الذي يستمر الخضوع لتوصياته الليبرالية الإجرامية رغم اعترافاته هو نفسه بعواقبها) فإنّ الفجوة بين تأمين الدولة للكهرباء وتزايد حاجة المستهلكين لها كانت في تزايد بالأساس حتى قبل الأزمة، وبينما كانت نسبة «كهربة البلاد» أي التغطية بالخدمة في سورية هي 93% عام 2010، ونسبة الوصول إليها 100% في المناطق الحضرية، و83% في الأرياف، فإنّ الوضع تدهور بشكل كبير بحلول العام 2021 (آخر عام درسه التقرير المذكور). ولا شكّ بأنّ التدهور مستمر ومتسارع بعد ذلك أيضاً وحتى اليوم.
وبحسب التقرير صار استهلاك الكهرباء من مولدات الدولة (القطاع العام) %15 فقط مما كان عليه عام 2010. وبحسب «تقييم الاحتياجات متعدد القطاعات» MSNA الصادر عن الأمم المتحدة أيضاً عام 2021 قالت 59% من العائلات المستطلعة في سورية إنّ المتاح وسطياً من الكهرباء بات أقل من 8 ساعات يومياً، وقال 30% منهم بأنها أقل حتى من ساعتين يومياً في بعض الأحيان (بالنسبة لهذين الرقمين لم يذكر التقرير مصدر الكهرباء إن كانت من القطاع العام أم الخاص أم من كليهما).
وذكر التقرير عدة عواقب على خدمات أساسية وحيوية للناس بسبب هذا القطع الكهربائي، وفي رأس القائمة كان التأثير على التزود بالمياه للأغراض المختلفة: «انقطاعات الكهرباء أثرت على كل من إنتاج وتوزيع مياه الشرب في البلد...» مما اضطر السكان إلى شراء المياه بتكاليف باهظة وخاصة في الأرياف، ولا سيما أن تزويد المياه إلى المنازل عبر شبكة المياه انخفض في بعض المناطق إلى مرة واحدة فقط كل 15 يوماً.
وإضافة للمياه، من المجالات الهامة الأخرى التي تضررت بسبب قطع الكهرباء وغيابها: التعليم، والصحة، والأمن الغذائي والزراعة، والسكن اللائق (حيث قالت تقديرات أممية بأنّ قرابة 6 ملايين سوري داخل البلاد بحاجة لدعم يتعلق بتأمين المأوى). هذا إضافة للتأثير على الاتصالات واللوجستيات الأخرى، وخاصة بحالات الطوارئ.
كانت هذه الملامح العامة للتأثيرات المادية المباشرة، ولكن هناك أيضاً تأثيرات نفسية لانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، يمكن رصد بعضها فيما يلي أدناه بحسب بعض الدراسات النفسية العالمية.
التوتر النفسي
تذكر عدة مصادر للأدبيات العلمية النفسية المنشورة حقيقةً من الحقائق التي قد يكون السوريون اليوم من بين أكثر شعوب العالم دراية وتجربة بها، ألا وهي أنّ العيش دون وسائل الحياة العصرية الحديثة، وخاصة دون كهرباء، أو مع كهرباء شحيحة بالكاد تكفي لتشغيل متطلبات هذه الحياة، يمكن أن يؤدي إلى الكثير من الكرب النفسي والأمراض النفسية. ومن الأجهزة الكهربائية الضرورية للعيش في الطور الأدنى من الحضارة في القرن الحادي والعشرين أجهزة مثل: البراد – الغسالة – المروحة - السخان – الفرن الكهربائي – الخلّاط - التلفاز – الإضاءة الكهربائية - الكمبيوتر... إلخ.
وعلى سبيل المثال درست إحدى المنشورات العلمية النفسية تأثير انقطاع التيار الكهربائي بعد إعصار كاترينا الذي ضرب بورتو ريكو في أيلول 2017 وتسبب بانقطاعات كهربائية لأسابيع. ومما لاحظته الدراسة انتشار القلق بين الناس لأسباب مثل الخوف على تلف الأطعمة وفسادها دون تبريد، وعدم الوصول الكافي للمياه سواء للشرب أو للاستحمام والنظافة، وتعطل الأعمال وإقفال أماكن العمل، مما جعل العائلات العاملة في توتر نفسي شديد بسبب فقدان الأجور. فكيف هي التأثيرات إذاً في بلد يعاني من غياب الكهرباء لسنوات ما عدا سويعات منها يومياً؟ وخاصةً أنّ البدائل التي تعرض على الناس هي الخصخصة والخدمة السيئة الباهظة مع السعي لمزيد من نهبهم وإرهاقهم بتكاليف فوق استطاعة الأغلبية العظمى منهم.
العزلة الاجتماعية
تقول دراسات نفسية أيضاً إنّ فئة المسنين معرضون بشكل أكبر للمخاطر من جراء الانقطاعات الكهربائية الطويلة: «انقطاع الطاقة الذي يسبب انقطاع التواصل قد يسبب العزلة الاجتماعية، وخاصة لدى المسنين، ويسبب التوتر الذهني». وسواء بالنسبة للمسنين أو الشباب والنساء والأطفال في المناطق النائية، يكون هناك خوف من فقدان التواصل الاجتماعي. هذا عدا عن مخاوف التعرض لمخاطر أمنية واعتداءات، كالسرقة أو هجوم جسدي أو الجريمة عموماً وغير ذلك...
إدمان المخدرات
كان لافتاً للانتباه بشكل خاص أنّ إحدى الدراسات النفسية أفردت فقرة خاصة من الفقرات التي عددتها لعواقب قطع التيار الكهربائي لفترات طويلة لإحدى المشكلات الاجتماعية التي يمكن أن تتفاقم بسببها؛ ألا وهي إدمان المخدرات. وبالطبع هذا يحمل أهمية خاصة جداً في بلدنا سورية، التي تعاني من هذه المشكلة المتفشية بتضافر عوامل الأزمة الاقتصادية-السياسية والبطالة والانهيار، واستغلالها من قبل مجرمي الحرب وبعض مافيات الفساد الكبير المتاجر بهذا النوع من السلع السامّة السوداء، ولذلك يبدو أن من مصلحة تجار ومروّجي المخدرات في سورية إبقاء البلاد بلا كهرباء لأنّ هذا يزيد إمكانية ترويج بضاعتهم وزيادة أرباحهم.
تقول إحدى الدراسات ما يلي: «من دون كهرباء، تصبح نشاطات الناس الترفيهية أو الممتعة محدودة. حيث يتم قطع سبلٍ شائعة للتسلية والاسترخاء، مثل التلفاز أو الإنترنت أحياناً والألعاب وغيرها... وفي بعض الأحيان وبدلاً من العثور على بدائل صحية، ينزلق الناس الذين يمرون بانقطاعات طويلة للتيار الكهربائي إلى أنماط من إدمان المواد المخدرة. وحتى الذين يكون لديهم مشكلات إدمانها مسبقاً وتخلّصوا منها، قد يعودون بهذه الظروف إلى الإدمان من جديد، وتزداد حالتهم سوءاً. وتبين الدراسات بالفعل زيادة الحالات الإسعافية في المستشفيات، الناجمة عن إدمان المخدرات، خلال فترات الانقطاع الشامل للتيار الكهربائي».
اضطرابات المزاج
الناس الذين يعانون من اضطرابات المزاج قد يتأثرون بشكل كبير بانقطاعات الطاقة. وأحد الأسباب يتعلق بأنّ ضوء الشمس الطبيعي بالأساس يعمل كواحدٍ من أفضل محسّنات المزاج، ويبدو أن البشر المتحضّرين في عصر ما بعد بالكهرباء باتوا يربطون تحسن المزاج أيضاً بالأنوار الاصطناعية الكهربائية في منازلهم أو أماكن أنشطتهم وأعمالهم، مما يعطي رافعة عاطفية مهمة لكثير من الأشخاص قد تنتشلهم من الوقوع في الاكتئاب أو اضطرابات نفسية أخرى. فمن دون أنوار كهربائية، قد يعاني المرضى المصابون بالأصل باضطرابات المزاج، من تفاقم حالتهم سوءاً، والميل إلى الغمّ والقلق والاكتئاب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1181