ليسنكو وفافيلوف (6) – ستالين وتقرير ليسنكو 1948
«لا يمكن لأيّ عِلمٍ أن يتطوّر ويزدهر دون صراع الآراء، دون حرية الانتقاد» – (ستالين، الماركسية ومسائل علم اللغة، 1950). تبيّن هذه الحلقة من السلسلة بأنّ ستالين على الرغم من ميله إلى تأييد خطوط أساسية في منهج ليسنكو البيولوجي والزراعي، وتحديداً تقنيات ميتشورين في التهجين، ونظرية لامارك في وراثة الصفات المكتسبة، غير أنّه كانت لديه انتقادات لليسنكو يُستدلّ عليها من حدثين على الأقل: التعديلات التي أدخلها ستالين على مسودة تقرير ليسنكو الشهير أمام مؤتمر أكاديمية لينين للعلوم الزراعية عام 1948، ومحاولة ستالين استعادة توازن ديمقراطيّ في صراع الآراء العِلمية عام 1952 عندما أصدر توجيهاً بإعفاء ليسنكو من منصبه كرئيس لأكاديمية لينين للعلوم الزراعية وأن يُلغَى هذا المنصب وتحلّ بدلاً منه «هيئة رئاسة جماعية» للأكاديمية تضمّ ممثّلين عن المعارَضة العلمية لليسنكو.
يُعتَبَر مؤتمر أكاديمية لينين للعلوم الزراعية الذي انعقد في 31 تموز حتى 7 آب 1948، ذروة تاريخية للصراع بين مؤيّدي مذهب ميتشورين وليسنكو من جهة والمعارضين لهما من تيار علم الوراثة السائد عالمياً آنذاك، من جهة ثانية.
قبل المؤتمر بأربعة أيام، ظهر ستالين في مكتبه بالكرملين بعد وعكة صحية ألمّت به لمدة 10 أيام. وبحسب أرشيف «زوّار مكتب ستالين بالكرملين 47 – 49» المنشور عام 1996، وصل إلى مكتب ستالين شخصان في مساء 27 تموز ١٩٤٨ عند العاشرة وعشر دقائق مساءً: القيادي في الحزب جورجي مالينكوف، وعالم البيولوجيا والزراعة تروفيم ليسنكو، حيث كانا يتوقعان استلام موافقة ستالين على نصّ التقرير الذي أعدّه ليسنكو لمؤتمر الأكاديمية الزراعية المذكور، والذي سبق لمالينكوف الاطلاع عليه دون إبداء أيّة ملحوظات، ثم أرسله إلى منزل ستالين الريفي في كونتسيفو بتاريخ 23 تموز. ولكن فوجِئ الرجلان بأنّ ستالين أدخل على التقرير عدداً من التغييرات والتصحيحات، وملحوظات انتقادية في هوامش الصفحات. وعلى مدى ساعة من الزمن، كما كشف ليسنكو بنفسه لاحقاً، قام ستالين «بإعطائي شرحاً تفصيلياً لتصحيحاته وتوجيهاته بشأن تحسين طريقة عرض أجزاء محددة من تقريري». وبعد ساعة (في الحادية عشرة مساءً) انضمّ إليهم القادة في الحزب والدولة: بيريا وبولغانين وميكويان وفوزينسكي وكاغانوفيتش. وجرى نقاش بينهم لمدة ساعة.
مِن تعديلات ستالين
بحسب باحثين ومؤرّخين روس قالوا إنهم اطلّعوا على الوثائق، احتفظ ليسنكو في مكتبه بمسودة تقريره وعليها اقتراحات التعديل المكتوبة بخط يد ستالين، وكان يعرضها أحياناً للزوار. وبعد وفاة ستالين، قام ليسنكو بتسليم الورقة الأصلية التي تحتوي على تصحيحات ستالين إلى الأرشيف المركزي للحزب، واحتفظ بنسخة منها لنفسه.
وفي عام 1993 كان باحث اسمه روسيانوف أول من اكتشف الوثيقة الأصلية في الأرشيف وعلّق عليها. وبحسب روسيانوف، قام ستالين بإزالة كل ذكر لعبارة «البيولوجيا البرجوازية» من التقرير واقترح بدلاً منها «البيولوجيا الرجعية». وقام ستالين بشطب القسم المعنون «الأساس الزائف لعلم الأحياء البرجوازي». وفي الهامش المجاور لتصريح ليسنكو بأن «أيّ علم يقوم على أساس طبقيّ» كتب ستالين بسخرية مقهقهاً: «ها ها ها، وماذا عن الرياضيّات، أو الداروينية؟». وفي قسم آخر، أضاف ستالين فقرة كاملة تؤيّد اللاماركية الجديدة.
الخلاف مع يوري جدانوف
كان يوري بن أندريه جدانوف عضو المكتب السياسي للحزب، وكذلك كان يوري صهر ستالين (زوج سفيتلانا ابنة ستالين). وحصل جدانوف الشاب، الذي كان عمره آنذاك 29 عاماً، على درجة علمية متقدمة في الكيمياء.
وصلت هذه الأزمة إلى ذروتها في نيسان من عام 1948 في ندوة لكادر الحزب الإقليمي حيث قام يوري جدانوف بالانتقاد العلني لليسنكو (الذي كان رئيس أكاديمية لينين الزراعية) وتحدث بازدراء عن «بيولوجيا ميتشورين» التي تبنّاها وطوّرها ليسنكو وكان لها الفضل في كثير من النجاحات العلمية والتحسينات النوعية والكمية بالمحاصيل الزراعية عبر تجربة التجميع الزراعي في الريف السوفييتي كما بيّنّا ذلك في حلقات سابقة من هذه السلسلة. وكان عالم البيولوجيا والبستنة الروسي إيفان ميتشورين (1855–1935) من الروّاد في تطوير الأنواع النباتية والزراعية أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وانتقد قوانين الوراثة المندلية (التي وضعها العالِم والراهب النمساوي غريغور مندل) وأيّد نظرية لامارك في وراثة الصفات المكتسبة. ونظراً لذلك تعرّض للازدراء من الأجيال الأولى لعلم الوراثة وخاصة من أنصار تعاليم المدرسة الوراثية التي تدعى «المندلية-المورغانية» وتدعى أحياناً «الوايزمانية»، الذين تشدّدوا في إسباغ صفات مطلقة من الثبات على المادة الوراثية واعتبار تغيرها، إذا حدث، تصادفياً عابراً، وقللوا من شأن تأثير البيئة والشروط الخارجية في تغيير الوراثة والأنواع.
هذه النظرة الجامدة عقائدياً وغير الديالكتيكية في الوراثة استخدمتها فئة خطيرة من المنظرين والسياسيين العنصريّين في الغرب (وخاصةً في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا) وفي الأنظمة الفاشية وحتى داخل روسيا، من التيار المعروف عالمياً باسم «اليوجينيا» أو «تحسين النسل» الذين استخدموا العلم الزائف ذريعةً لتبرير الاضطهاد العنصري والاستعماري للأعراق غير البيضاء أو قوميات معيّنة، هذا عدا عن الممارسات الإجرامية مثل فرض منع الإنجاب والتعقيم القسري على فئات اجتماعية وعرقيّة معيّنة بذريعة أنها تحمل «مورّثات سيئّة» أو «آثمة» ستورّثها حتماً دون تغيير، على حد زعمهم، إلى الأجيال اللاحقة.
بسبب انتقادات جدانوف الابن، بعث ليسنكو في 17 نيسان رسالة احتجاج إلى ستالين، وإلى أندريه جدانوف أمين اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (ووالد يوري). وبعد شهر من عدم تلقيه أي ردّ، أرسل ليسنكو خطاباً رسمياً إلى وزير الزراعة بينيديكتوف يطلب فيه إعفاءه من منصبه كرئيس لأكاديمية لينين الزراعية.
في 15 تموز 1948 أصدر المكتب السياسي للحزب قراراً رسمياً «بشأن قضايا تتعلق بالأكاديمية السوفييتية للعلوم الزراعية» ينصّ على توسيع كادرها، وتضمّن القرار أيضاً انتقاداً صريحاً ليوري جدانوف بالاسم واصفاً تقريره ضد ليسنكو بأنه «خاطئ ولا يعكس موقف اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي /البلاشفة/».
شهادة ماليشيف
في هذا السياق تكتسب شهادة المهندس والقيادي فياتشيسلاف ماليشيف أهمية خاصّة. كان ماليشيف قد أصبح عام 1948 رئيس جهاز الأمن الداخلي ورئيس اللجنة الهندسية في الدولة السوفييتية، واحتفظت الأرشيفات بالملاحظة التالية من مذكّرات ماليشيف، والتي يمكن العثور على وثيقتها على موقع «المكتبة الإلكترونية للوثائق التاريخية الروسية» rushistory.org حيث كتب في مذكراته بتاريخ 31 أيار 1948 بعد اجتماعٍ جرى في اليوم نفسه للمكتب السياسي للحزب، ما يلي:
«في المكتب السياسي تم طرح مشروع قرار بشأن منح جوائز ستالين للعلوم والاختراعات. وأشار ستالين إلى أنه: قبل النظر في هذه القضايا أيها الرفاق، ألفت الانتباه إلى حقيقة أن يوري جدانوف [ابن أندريه جدانوف] قد ألقى محاضرة ضد ليسنكو وشدد جدانوف نفسه على آرائه الشخصية. قال الرفيق ستالين: في حزبنا ليس لدينا وجهات نظر شخصية بل لدينا وجهات نظر الحزب. وعلاوة على ذلك فإنّ جدانوف وضع كهدفٍ له إلحاق الهزيمة بليسينكو وتدميره. وهذا ليس صواباً. قال الرفيق ستالين: يجب ألا ننسى أنّ ليسينكو هو ميتشورين في التكنولوجيا الزراعية. يجب ألا ننسى أن ليسينكو كان أوّل من قام برفع مكانة ميتشورين كعالِم. قبل ذلك، كان خصوم ميتشورين يطلقون عليه اسم الرجل الصغير، وغريب الأطوار الريفيّ، والحِرفيّ، وما إلى ذلك».
وهكذا يُستنتَج من كلام ماليشيف أنّ جزءاً من انتقاد ستالين ليوري جدانوف الشاب يتعلّق بارتكابه هذه المخالفة التنظيمية الحزبية، التي تخرق مبدأ المركزية الديمقراطية، لعدم تقديره -إذا افترضنا أحسن النوايا- عواقبَ سلوكٍ وتصريحات فسّرها الناس كموقف رسمي من الحزب لا كرأي شخصي لجدانوف. ولم يكن ستالين ضدّ توجيه النقد العلمي بحد ذاته، بما في ذلك إلى ليسنكو، كما يظهر من متابعة ماليشيف في مذكراته ناقلاً رأي ستالين: «ليسنكو لديه عيوب وأخطاء كعالِم وكشخص، ويجب انتقاده، ولكن أن تجعل هدفك هو تدمير ليسنكو كعالِم يعني صبَّ الماء في طاحونة ما هبّ ودبّ مِن الخصوم».
لقراءة الجزء الأول من المقال: ليسنكو وفافيلوف وأشرسُ حَملة لتشويه تاريخ السوفييت بذريعة العِلم (1)
لقراءة الجزء الثاني من المقال: ليسنكو وفافيلوف (2) - هل دمَّرت أبحاث ليسنكو الزراعة السوفييتية؟
لقراءة الجزء الثالث من المقال: ليسنكو وفافيلوف (3) - التجميع الزراعي والمعركة مع الكولاك
لقراءة الجزء الرابع من المقال: ليسنكو وفافيلوف (4) - الأسباب الحقيقية للمجاعة الأوكرانية
لقراءة الجزء الخامس من المقال: ليسنكو وفافيلوف (5) – هل كان فافيلوف خائناً أم مظلوماً؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1174