ليسنكو وفافيلوف (3) - التجميع الزراعي والمعركة مع الكولاك
إنّ جزءاً أساسياً من حملة التشهير ضدّ ليسنكو لا يمكن فهمه بالاقتصار على معرفة الخلافات المتعلقة بعلوم الزراعة والوراثة، بل ارتبطت الحملة في سياقها الأوسع بالصراع الاقتصادي-السياسي، وخاصة بأشرس المعارك الطبقية في الريف السوفييتي من أجل «التجميع الزراعي» و«نزع الكولاكية».
بدأت هذه المعركة الطبقية تفرض ضرورتها بإلحاح اعتباراً من العام 1927 وتمّ خوض غمارها فعلياً منذ 1929 حتى 1936، وانتهت بانتصار الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين الفقراء. ونظراً لأهميتها التاريخية في إنقاذ الاشتراكية السوفييتية واستكمال بنائها، ظهرت حاجة ملحّة لدى النازيين والقوى الإمبريالية الداعمة لهم إلى تنظيم حملة دعائية ضخمة للتلاعب بالوعي وترويج الأكاذيب عن (مجاعة/مجزرة) ألقيت مسؤوليتها على البلاشفة وستالين بالذات.
وهنا تكتسب أهميةً كبيرة المعلومات الواردة لدى مؤرّخين مثل الشيوعي البلجيكي لودو مارتينز في كتابه «ستالين نظرة أخرى» - (الصادر بالفرنسية بالأصل 1994، وبطبعته العربية عن دار الطليعة الجديدة بدمشق، ط2 عام 2003، ترجمة حسن عودة). حيث كتب المؤلّف في مطلع الفصل الخامس المخصص لـ(المجزرة الأوكرانية): «ظلّت الأباطيل المنشورة حول التجميع الزراعي، باستمرار، الأسلحة المفضلة في الحرب النفسية ضدّ الاتحاد السوفييتي».
مَن هم الكولاك؟
يتناول أحد أفلام السلسلة الأمريكية الشهيرة Cosmos -والتي يُفترض أنها سلسلة «عِلمية» تستهدف جمهوراً واسعاً- قضية فافيلوف وليسنكو (الحلقة 4 من الموسم الأول، إنتاج 2019 من شركة Possible Worlds LLC بالتعاون مع FOX ولمصلحة ناشونال جيوغرافيك، ويرويه الفيزيائي-الفلكي الأمريكي نيل ديغراس تايسون). وفي منتصف الفيلم تُعرَض مشاهد بالأبيض والأسود لما يفترض أنها من المجاعة الأوكرانية مع تعليق الراوي بأنّ: «ستالين أمر بتصفية الكولاك كطبقة، وهم أكثر الفلاحين المعروفين ازدهاراً، وقد مات من المجاعة ما بين 5 و10 ملايين إنسان». ولكن الفيلم لا يشرح للمشاهدين مَن هم «الكولاك» بالضبط.
أما لودو مارتينز فيسلّط الضوء في كتابه على الكولاك بوصفهم طبقة فلاحيين أغنياء لم يشكّلوا سوى 5% من مجموع الفلاحين في أراضي الاتحاد السوفييتي، مستشهداً بما كتبه ستيبنياك، أحد أفضل المختصين الروس بتاريخ الحياة الفلاحية أواخر القرن التاسع عشر:
«داخل كلّ كومون قروي ثمة على الدوام ثلاثة أو أربعة من الكولاك ومعهم نحو نصف دزينة من مصاصي الدماء على شاكلتهم. ليسوا بحاجة إلى أية مؤهلات أو بذل أي جهد شاق... بل الاستجابة السريعة لاستغلال حاجات الناس وهمومهم وبؤسهم من أجل مصلحتهم الخاصة... والسمة الغالبة على هذه الطبقة هي القسوة الفظيعة الباردة الأعصاب التي يتميز بها رجلٌ يفتقد تماماً أيّ تربية إنسانية، يشق طريقه من الفقر إلى الغنى...».
أما الأمريكي ي ج. ديللون ذو المعرفة العميقة بروسيا القديمة فقد كتب: «من بين كل الوحوش البشرية التي التقيتُها في يوم من الأيام خلال تجوالي في العالَم لا يمكنني تذكّر أحدٍ على هذا القدر الفظيع من السوء والبشاعة مثلما كان الكولاكيّ الروسيّ».
لماذا كانت تصفية الكولاكية ضرورة؟
بعد الفترة الأولية المعروفة باسم «شيوعية الحرب» التي أعقبت ثورة أكتوبر الاشتراكية والحرب الأهلية (1918 حتى 1922)، رأت القيادة البلشفية بزعامة لينين أنّه لا بدّ من انتهاج «سياسة اقتصادية جديدة» عرفت اختصاراً بـ«النيب»، استمرت منذ 1921 حتى 1928، وتعني تقديم تنازلات نسبية تسمح للأفراد بملكية خاصة صغيرة ومتوسطة في حين تواصل الدولة السيطرة على الصناعات الكبيرة والبنوك والتجارة الخارجية. واستُهلّت هذه السياسة بقانونٍ تراجعت فيه الدولة عن سياسة الاستحواذ الإجباري على محاصيل الحبوب لتوزيعها واعتمدت بدلاً من ذلك ضريبةَ غذاء على الفلاحين تُجبى من منتوجاتهم الزراعية الخام. وهكذا سمحت هذه السياسة باستعادة نوعٍ من علاقات السوق الرأسمالية كان لها جانبها الإيجابي المُبرَّر آنذاك من أجل تطوير قاعدة الإنتاج أخذاً بالاعتبار ميزان القوى الطبقي الذي لم تكن فيه الطبقة العاملة وحلفاؤها من الفلاحين الفقراء قد رسّخوا بَعدُ قوّةً كافية لمواجهةٍ أشدّ حسماً مع البرجوازية المتبقية التي كان أهمّ وآخر ممثّليها في الريف هم الكولاك.
ولكن بدأ الكولاك والتجار يُمعنون في استغلالٍ خَطِر لهذ التنازل من السلطة السوفييتية، ولا سيّما اعتباراً من خريف 1924 حيث كان المحصول رديئاً نوعاً ما، ولم تستطع الدولة شراء محصول الحبوب بسعر محدَّد، فاشتراه الكولاك وتجّار السوق بالسعر الحرّ ثم رفعوا أسعاره في الربيع والصيف عبر المضاربة. وتفاقمت الأزمة حتى باتت خطورتها أوضح عام 1927 حيث كان يمكن حساب ميزان القوى الطبقي بين الاقتصاد الاشتراكي والرأسمالي داخل البلاد على النحو التالي: سلَّمت الزراعة الجماعية الاشتراكية 0.57 مليون طن من القمح إلى السوق، بينما سلّم الكولاك 2.13 مليون طن، وكان هذا يعني أنّ التموين الغذائي للعمال في المدن وبالتالي مصير التصنيع بات مهدَّداً لأنّ أغلبه تحت رحمة الكولاك. وأدرك ستالين أنّ الاشتراكية مهدَّدة بالخطر من ثلاث جهات: خطر ثورات الجياع في المدن، وخطر تعزيز سلطة الكولاك في الريف، وخطر التدخلات العسكرية الأجنبية.
ولذلك وبعد نقاشات وخلافات داخل الحزب تمّ تبني قرار في مؤتمره الخامس عشر، 2 كانون الأول 1927 نجد فيه شرحاً بسيطاً لمعنى التجميع الزراعي (تشكيل الكولخوزات):
«أين السبيل للخروج من الأزمة؟... إنه يعتمد على تحويل المزارع الفلاحية الصغيرة والمفتتة إلى مزارع شاسعة ومندمجة، على أساس العمل المشترك في الأرض، وعلى الانتقال إلى العمل الجماعي على قاعدة تقنية جديدة أكثر تطوراً... على توحيد مزارع الفلاحين الصغيرة والمحدودة، تدريجياً، ولكن بثبات، ليس بأساليب الضغط والإكراه، بل من خلال القدوة والمثال، والعمل عن اقتناع وثقة... على أساس العمل المشترك والأخويّ في الأرض، مزوِّدين هذه المشاريع بالآلات الزراعية والجرارات ومطبِّقين فيها الطرائق العلمية من أجل تكثيف الزراعة».
وفي كانون الثاني 1928 اضطر المكتب السياسي إلى إجراءٍ استثنائيّ هو مصادرة القمح من الكولاك والفلاحين الميسورين تفادياً لمجاعة مرتقبة لدى سكان المدن حيث بدأ استياء العمال يتصاعد.
وتمّ تسريع نشاط التجميع الزراعي وصولاً إلى انقلابٍ بميزان القوى مع نهاية عام 1929 عندما أنتجت الزراعة التعاونية 2.2 مليون طن من القمح التجاري، فقال ستالين: «نمتلك الآن القاعدة المادية الكافية لضرب الكولاك وتحطيم مقاومتهم وتصفيتهم كطبقة والاستعاضة عن إنتاجهم بإنتاج الكولخوزات [المزارع التعاونية] والسوفخوزات [مزارع الدولة]».
مصير مليون أسرة كولاكية
اتخذ الحزب في 30 كانون الثاني 1930 قراراً حاسماً لدعم الانتفاضة من أجل نزع الكولاكية، والتي بادر إليها عفوياً بالأساس فلّاحو الريف الفقراء، ودعمتهم السلطة السوفييتية وحاولت تنظيمهم وتوجيههم نحو أفضل النتائج بأقل الخسائر البشرية والمادية الممكنة، والتي لم يكن منها مفرّ في حربٍ طبقية طاحنة كتلك. وحسب رواية مؤرّخ سوفييتي كتبها عام 1975: «بين كانون الثاني ومنتصف آذار 1930 نظّم الكولاك في سائر أرجاء البلاد (ما عدا أوكرانيا) 1687 تظاهرة مسلّحة ترافقت مع قتل أعضاء في الحزب والسوفييتات ونشطاء كولخوزيين مع تدمير ممتلكات كولخوزية».
بحسب الإحصاء الذي اعتمد عليه القرار الحزبي لنزع الكولاكية في 30 كانون الثاني 1930، لم تتجاوز أُسر الكولاك 5% في مناطق زراعة الحبوب و3% في المناطق الأخرى. وتمّ تقسيمهم إلى 3 فئات:
الفئة الثالثة، وقدّروا بـ 852 ألف أسرة كحد أقصى، وهم أغلبية الكولاك، وتَقرّر النظر في إمكانية انضوائهم تحت جناح السلطة السوفييتية مع مصادرة القليل من وسائل إنتاجهم واحتفاظهم بأكثرها مع نقلهم إلى أرض عذراء غير محروثة من المقاطعة التي يقيمون فيها. ويُفهَم من ذلك أن السلطة السوفييتية منحتهم فرصة أن يكسبوا رزقهم بعرق جبينهم ويكفّوا عن استغلال الفلاحين الفقراء.
الفئة الثانية، قُدّروا بـ 150 ألف أسرة، هم الكولاك النشيطون سياسياً في معارضة الدولة السوفييتية ولكنهم الأكثر ثراء، وينبغي مصادرة معظم وسائل إنتاجهم وممتلكاتهم الشخصية على أن تُترَك لهم كمية من الغذاء ومبلغ 500 روبل، مع نفيهم إلى سيبيريا أو كازخستان أو الأورال.
أما الفئة الأولى والأسوأ، فقُدّروا بـ 63 ألف أسرة في كل الاتحاد السوفييتي، هم أصحاب الأنشطة الأكثر عداءً للثورة. ومصير أرباب هؤلاء الأسر السَّجن أو الحجز في معسكر، إلّا إذا كانوا من منظِّمي الأعمال الإرهابية والقتل وما إلى ذلك فيمكن أن يُحكَم عليهم بالإعدام. وباقي أفراد أسر هذه الفئة تُصادَر وسائل إنتاجهم ويتم نفيهم على غرار الفئة الثانية.
وسنتابع لاحقاً التعرّف على الأسباب الحقيقية للمجاعة الأوكرانية أوائل الثلاثينيّات من القرن العشرين، ودور الكولاك فيها.
لقراءة الجزء الرابع من المقال: ليسنكو وفافيلوف (4) - الأسباب الحقيقية للمجاعة الأوكرانية
لقراءة الجزء الثاني من المقال: ليسنكو وفافيلوف (2) - هل دمَّرت أبحاث ليسنكو الزراعة السوفييتية؟
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1171