علم النفس التحرري بمواجهة علم النفس الليبرالي (1) - بدائل العالم الجديد
إعداد: نايا سلام إعداد: نايا سلام

علم النفس التحرري بمواجهة علم النفس الليبرالي (1) - بدائل العالم الجديد

أدلى المهندس والباحث في علم النفس والاجتماع «محمود أبو العادي» بحديثٍ هامّ، أواخر نيسان الماضي 2024 عبر بودكاست «البلاد» حيث استضافته الإعلامية منى العمري. تكلّم محمود، وهو خرّيج الجامعة الأردنية، عن علم النفس التحرري وتأثيره على تفكير وسلوك الشعوب المستعمَرة، باستخدام الحالة الفلسطينية والحرب على غزة أنموذجاً. سنحاول في هذه المادة المُسَلسَلة تلخيص أهم ما ورد عن لسان محمود أبو العادي حول علم النفس التحرري وما يميّزه عن علم النفس الليبرالي.

سؤال «ما العمل؟»

جواباً على سؤال «ما الذي دفعك للانتقال إلى علم النفس؟» أجاب محمود أبو العادي: هنالك محددات متعلقة بالهندسة بحد ذاتها، إلى أي درجة يمكن لهذا الاختصاص الإجابة عن المشاكل الحالية، هل مشاكلنا الحالية هندسية؟ يبدو أن كل ما يتعلق بالسلوك وعلم الاجتماع وعلم النفس هو أقرب وأكثر راهنية لمشاكلنا، شخصياً كان لدي هاجس لسؤال «ما العمل؟»، كيف يمكن أن يكون لأي إنسان أي دور في مساعدة هذا المجموع السكاني الذي وُجدَ في هذه المنطقة في هذه اللحظة من التاريخ؟ وهذا سؤال شائع، لأنه من الواضح وجود تطلعات مشتركة بين الجميع، فهذا ليس وضعنا الطبيعي ونحن نمتلك قدرات وإمكانيات بشرية هائلة، ولدينا مؤشرات تنموية وحضارية.
وهذا ما يدلّل عليه أحد العلماء في الدراسات التنموية والمؤشرات الحضارية، حيث يقول إن منطقتنا تمتلك عدداً كبيراً من الشباب كتشريح عمري، يغطون مساحة حرجة من حيث المعابر والمنافذ البحرية وكذلك الامتداد البري، وهي منطقة ثرية بالموارد، يضاف إلى ذلك وجود إرث ثقافي عند هؤلاء الشباب متعلق بتصورات عن ذواتهم وماضيهم، إذ كان لهم نوع من السيادة الأممية، كل ذلك يجعل من هؤلاء الشباب طاقة لا نهائية يمكن أن تتفجر في أية لحظة، وهذه الأسباب نفسها هي التي تجعل من هذه المنطقة منطقة صراع واستهداف دائم، ليس فقط لمصالح براغماتية متعلقة باللحظة، بل متعلقة بأنّ هذه المنطقة مصدر تهديد ولديها القدرة على أن تسود مرة أخرى، هي تحتاج أفقاً سياسياً وحرية سياسيّة فقط. سؤال «ما العمل» كان مرتبطاً بفترة «الربيع العربي» حيث كانت هنالك تطلعات عالية أعقبها «اكتئاب سياسي»، حيث جرت محاولاتٌ لجعل الناس ينقمون على ثوراتهم ومحاولاتهم. هنالك أفراد طيّبون صادقون ولكن من شدّة القهر السياسي وغياب الحريات يحدث استدخالٌ لهذا العنف، فيشعر الشباب بالاكتئاب ولوم الذات والعجز، وينشأ سؤال «ما الذي فعلته لأستحق كل هذا؟».

كيف يتعاطى علم النفس التحرري مع الفرد؟

علم النفس التحرري لا يتعاطى مع الفرد بوصفه حالة إكلينيكية يمكن إعطاؤها علاجاً مضادّاً للاكتئاب لمدة ثلاثة أسابيع أو أربعة، فأوّل خطوات العلاج النفسي التحرّري بأنْ تجعله أكثر وعياً بالظروف السياسية والاقتصادية التي تؤثّر في نفسيّته وذهنيّته وأفكاره، فالأفراد ليسوا سيّئين، ليسوا عاجزين ولكن هذا ما يراد لهم أنْ يشعروا به. إنه ينظر إلى السياقات السياسية الاجتماعية، بوصفها مكوناً أساسيّاً في نفسية الفرد، وإدراك ذلك يعتبر حلّاً، فمِن أهمّ أقوال علم النفس: إنّ التفسير والإدراك هو نصف العلاج.
بالمقابل ينظر علم النفس الليبرالي الغربي والمهيمن إلى الأمر وفق مقولة: ليس هنالك مشكلة في الوقائع، هنالك مشكلة في تفسيرك للوقائع، وبالتالي يعطي الحلّ للفرد كفرد، ويلومه على طريقة تفسيره للواقع، وبذلك هو يفترض بأنّه قادر على مساعدة الفرد على التفكير بأنّ ما يحدث له غير شخصيّ، ويمكن أن يحدث لأيِّ إنسان، ولكن في واقع الاحتلال لا يوجد شيء غير شخصيّ فمجرّد وجودك كفلسطيني هنالك استهداف شخصي لذاتك، وعليه من غير المنطقي أن أقول لك إنّك تشخصن الأمور، فالتجربة معمَّمة.

الجماعة والذات

البعض يعطي حلولاً من قبيل «حدّدْ وقتك على السوشال ميديا، لتخفيف الآثار النفسية عليك»، وقد يسأل سائل ما المشكلة بهذا الحل؟ هنالك مقولة ضمنية في هذا الحل: كل ما يهم فيما يجري من حولك هو صحتك النفسية، المهم أنت. هذا يتناقض مع إرثنا العربي والتضحويّ، الكرم والإيثار وغيرها، الذي قد يصل إلى مرحلة إلغاء الذات، واعتبار نفسك أنك لست أنت المهم، المهم مثلاً أن يكون جارك بخير، أو أن يأكل الضيف... في سبيل الثورة والتضحية القيم الأخلاقية أهم من الانزعاج الشخصي. أين موقع كل ذلك في علم النفس الغربي؟ في هذا الأخير منهج «السلامة» هو المهيمن.

تحرير علم النفس

علم النفس التحرّري يتضمّن تحرير علم النفس أولاً، وهذا يطرح سؤالاً: ممّ نحرِّر علمَ النفس؟ علينا تحرير علم النفس من السياقات التي نشأ بها، فجزءٌ كبيرٌ منه نشأ في سياقٍ حربيٍّ واستعماريٍّ متعلِّقٍ باحتلال «دول العالم الثالث» (وهذا المسمَّى بحدّ ذاته يستبطن النظرةَ الفوقية)، مثالٌ بسيط على ذلك: ما نعرفه اليوم باختبار الذكاء IQ test مُورِسَ بدايةً ضدَّ الأفارقة بوصفهم يعطون على مقياس الذكاء أرقاماً أقل من التي يعطيها البيض، وهم بحاجة لعمليات من التحضير ليصبحوا «أكثر عقلانية وحضارة وذكاء»، وبالتالي يصبح التدخُّل مشروعاً! حتى أنهم كانوا يقيسون مقطعاً عرضياً للدماغ لمعرفة حجم بعض المناطق فيه، ويقولون إنها تعاني من الضمور لدى الأفارقة، وعليه يحكمون عليهم بأنهم «غير حضاريين»، وقد تم تفنيد كل ذلك لاحقاً.
وعليه فعلم النفس التحرري يدعو لنزع المضامين الاستعمارية من مفاهيم علم النفس، وبالتالي ينشأ سؤال: ما أثر استخدام علم النفس كما هو؟ الأثر الواضح هو لوم الذات، تحويل كل المشاكل السياسية والاجتماعية إلى مشكلة طبية، ففجأة مشكلة بحجم الاحتلال والقهر يتم حلّها بدواء في العيادة، كمضادات القلق والاكتئاب، وفي الحقيقة لديهم فعالية «علاجية»؛ إذْ يجعلون الفرد أكثر تكيّفاً مع الواقع، فهو ترويض لأولئك العاجزين عن التأقلم، ولكنه في الوقت نفسه يجعل الفرد خاملاً تجاه واقعه، بمعنى أنه غير مضطرّ لتغيير أيّ شيء، المهمّ سلامته النفسية، وفي نهاية المطاف يكون الحلّ فردياً لمساعدة الشخص على تحييد ألمه. وفكرة تحييد الألم هذه هي عقيدة موجودة في علم النفس الحالي، الذي يقول إنّ علينا بدايةً الابتعاد عن مصادر الألم، وليس عن سببها! وهذا لا يقطع جذور الألم.

«التنمر» بين علم النفس التحرري والليبرالي

عندما يشتكي شخص ما على شخص آخر بوصفه متنمّراً يكون الحل الذي يقدّمه علم النفس المهيمن هو معاقبة المتنمّر، بينما العلاج الواقعي التحرّري يقول بأن هنالك تفاوتات بين الناس، وهنالك أشخاص سيئون، وعليه أريد أن أفكّر مع الشخص الذي تعرّض للتنمر: ما هي مجالات مقاومة هذا الشخص المتنمر؟ فيُسأل الطفل في هذه الحالة: هل لديك أصدقاء في المدرسة؟ هل تستطيعون عمل حلفٍ لمقاومة هذا الشخص المتنمر؟ بهذه العملية يتم تعليم الطفل ضمناً شيئاً عن ذاته وشيئاً عن الآخر، وبذلك نجعله ندّاً وشخصاً كفؤاً، بدل أن يُكتَفى بحمايته وتحييد الألم الذي سيؤدي في النهاية إلى هشاشة نفسية.

تفسيرات علم النفس الليبرالي للانتحار

توجد قرية في الهند تدعى «داربا»، والناس فيها يزرعون ويأكلون مما ينتجونه، ويوجد نوع من الاكتفاء الذاتي لديهم. جاء البنك الدولي وصندوق النقد واتفقا مع حكومة الهند على تطبيق سياسات نيوليبرالية بغرض الانفتاح على الاقتصاد العالمي، حيث قالوا لهم: إننا نمتلك محاصيل زراعية جديدة وبذوراً معدّلة وراثياً تجني أرباحاً كبيرة، ويمكنكم شراؤها حتى إن لم تمتلكوا ثمنها، لا مشكلة، فسوف نقوم بافتتاح بنوك تستطيعون الاستدانة منها. وفعلاً زرع أهل المنطقة من هذه المحاصيل فبدأت تواجه مشاكل زراعية، فقالوا لهم لا مشكلة فلدينا مبيدات وأسمدة، فعاد أهل المنطقة للاستدانة مجدداً من البنك، وبالتالي أدخلوهم في دوامة من زراعة محاصيل لا تنتمي إلى بيئتهم، ومحاولة إصلاحها، وبذلك جعلوا منهم أشخاصاً مديونين بشكل مستمر للبنوك، وعندها بدأت الناس تعجز عن الحياة وحصلت جملة من الانتحارات والتي تعدّ واحدة من أكبر معدلات الانتحار في العالم.
وعندها تدخَّلَ علمُ النفس المهيمِن لتصوير العدد الكبير من حالات الانتحار هذه. وكان الحل لدى صندوق النقد الدولي ليس سحب هذه البنوك وهذه المحاصيل، بل ما نحتاجه من وجهة نظره هو التدخل السريع للطب النفسي عبر المنظمات الأممية والبدء بالعلاج النفسي لهؤلاء الأشخاص من جهة، ومن جهة ثانية قامت الحكومة الهندية نفسها، بإيعازٍ من الصندوق الدولي، بدراسة علمية تحت مسمى: «تحقيق في الارتباط الجيني بين سكان داربا وفرص تعرضهم للانتحار»، بمعنى محاولة ردّ المشكلة إلى «النفسيات الضعيفة» للسكان، فربما أجدادكم ليس لديهم قدرة على تحمّل الضغوط النفسية وهذا ما دفع بكم إلى الانتحار!

لقراءة الجزء الثاني من المقال: (علم النفس التحرري بمواجهة علم النفس الليبرالي (2): التفاؤُل يُكتَسب)

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1174
آخر تعديل على الأربعاء, 22 أيار 2024 12:03