«بايدو» الصيني والاستقلال عن GPS الأمريكي
هيمنت واشنطن لعقود على مجال الملاحة الفضائية وتحديد المواقع العالَمي بتكنولوجيا الأقمار الصناعية، عبر منظومتها المعروفة باسم GPS، التي صمّمها الجيش الأمريكي كأداة عسكرية ثم عسكرية- مدنية، وما تزال واشنطن والناتو يستخدمانه في نشاطاتهم الحربية والإجرامية في أكثر من مكان، الأمر الذي يعزّز مشروعية سؤال منطقي، بل ومساءلة، في كلّ دولة إذا كانت لها أنْ تستقلّ عن الهيمنة الأمريكية: لماذا تواصل الاعتماد على منظومة الجيش الأمريكي هذه؟! وهو سؤال أكثر إلحاحاً اليوم مع وجود البدائل، حيث قطعت الصين أشواطاً مهمّة في تطوير منظومة «بايدو» وكذلك تطوّر روسيا منظومة «غلوناس»، مما يفتح إمكانية التعاون لتقليل الخطر على البلدان والأفراد الناجم عن مواصلة الارتهان لمنظومة الأعداء القادرة على التحكم باتصالاتنا وتحديد مواقعنا.
حتى اليوم ما تزال منظومة GPS مملوكة للحكومة الأمريكية، وتديرها القوات الفضائية الأمريكية، كفرعٍ عسكري تابعٍ للقوات الجويّة للجيش الأمريكي. وفي الشهر الماضي بثّت قناة CNBC الأمريكية تقريراً، استضافت فيه عدداً من الخبراء والمسؤولين، منهم: باربارا بيكر، نائبة الرئيس التنفيذي لبرنامج الاتصالات العسكرية وقيادة المنظومة الفضائية للجيش الأمريكي، حيث قالت: إنّ «جي بي إس هو الكوكبة الوحيدة من الأقمار الاصطناعية الذي يُستخدَم في الرحلات الجوية على مستوى عالَمي».
بدوره قال أندرو ميلر، ضابط عمليات المساعدة وتحديث قوات الاحتياطي الجوي في الجيش الأمريكي: إنّ هناك نحو 6 مليارات مستخدم يستعملون GPS حول العالَم، بما في ذلك الاتصالات، والمعاملات المالية، والزراعة، والمرور والمواصلات، وغيرها. واستشهد تقرير القناة بدراسة تعود إلى عام 2019، قالت: إنه «في حال فقدان خدمات الجي بي إس فإنّ هذا سوف يتسبب بخسائر تبلغ مليار دولار كلّ يوم».
هذا يبيّن أهمّية GPS للاقتصاد في العالم، ولكن بما أنّها منظومة أمريكية فلا شكّ بأنّ الفوائد الاقتصادية والمالية تصبّ بشكل غير متكافئ في المصلحة الأمريكية واقتصاد الدولار. بالمقابل ذكر التقرير نفسه، بأنّ منظومة بايدو الصينية ستحقق عائدات للاقتصاد الصيني بما يعادل 156 مليار دولار عام 2025.
وعلّقت النائبة الأمريكية ميكي شيريل، الرئيسة المشاركة لهيئة حكومية متخصصة في مجال GPS بالقول: «في حال تعرّضنا لهجوم على منظومة GPS فيمكن بالفعل تضرّر وشلل عدة مجالات لدينا من اللوجستيات، وسلاسل الإمداد، والزراعة، إلى النقل والمواصلات والطيران».
«الدبّ الأكبر» واستقلال الصين
يعترف التقرير الأمريكي بانتهاء احتكار الولايات المتحدة لتطوير هذه التكنولوجيا. وتلاحظ خصوصاً بأنّ الصين أطلقت عام 2020 آخر أقمارها الصناعية الضرورية لإكمال منظومتها المسمّاة بايدو Beidou باللغة الصينية، وتعني «الدبّ الأكبر»، وأضافت بأنّ «الخبراء يقولون: إنّها تنافِس منظومة GPS الأمريكية في عدة اعتبارات»، وتوضح الخبيرة سارة سيوال: «خلال العشرين سنة الماضية، انتقل الصينيون من وضع الأقمار الصناعية فوق الصين، إلى الإقليم، ثم إلى تغطية عالَمية بحلول 2020، مما يعتبر تقدّماً سريعاً جداً. ولا يُنظر إليه كأداة عسكرية فقط.. بل ودبلوماسية، حتى أنّ أحد المحلِّلين أطلق على منظومة بايدو تسمية: إعلان بكّين للاستقلال عن الغرب، وهي تسمية أعتقد أنّها موفَّقة تماماً وتكثّف حقيقة الأمر بالفعل».
ويضيف البروفسور كريستوفر نيومان، المتخصص في سياسة وقانون الفضاء بجامعة نورثومبريا: «ما نشهده هو بمثابة إعلانٍ صيني للتعزيز الجادّ لبنيتها التحتية الاستقلالية، بما يلبي طموحها العسكري والدفاعي، وكذلك طمأنة حلفائها بأنها توصّلت إلى المقدرة على التعامل مع أيّ تهديد يعترض طريقها».
كيف يتحدّى بايدو «جي بي إس»؟
بدأت الولايات المتحدة إطلاق منظومتها الخاصة للأقمار الصناعية الملاحية عام 1978. أما اليوم فتوجد 4 منظومات رئيسة عالَمية: جي بي إس الأمريكية، وبايدو الصينية، وغلوناس GLONASS الروسية، وغاليليو التابعة للاتحاد الأوروبي. وبايدو هي الأحدث ظهوراً من بين هذه المنظومات.
تدور أقمار GPS الأمريكية على ارتفاع 12550 ميلاً فوق سطح الأرض، وتتألف من 31 قمراً اصطناعياً، مع محطات أرضية وهوائيات للمراقبة والتحكم وتبادل البيانات. وهناك الأجهزة المزودة بمستقبلات GPS (كالتي في هاتفك الجوال أو سيارتك)، تعمل على تتبع الإشارات الراديوية التي يبثّها كلّ واحد من هذه الأقمار الصناعية لتحديد المكان الدقيق للمستخدِم، وكلما زاد عدد الأقمار الصناعية المنخرطة في هذه العملية كلّما تمّ تحديد الموقع بدقّة أكبر.
تلتقط الهواتف الذكية والأجهزة المزوّدة بهذه التكنولوجيا واحدة أو أكثر من منظومات الملاحة الفضائية العالمية، سواء كانت من GPS أو بايدو أو غاليليو أو غلوناس. وتوضح باربارا بيكر بأنّك عندما تفعّل استقبال هذه التكنولوجيا في هاتفك الذكي سيتصل بالمنظومة المتاحة مقرّراً أيّ قمر اصطناعي سيختار، غالباً حسب الإشارة الأفضل والأقوى المتوفرة في نطاق التغطية، دون أن تدري أنت كمستخدم بأيّ قمر أو منظومة تتصل.
ومع أنّ الخبيرة أعلاه قالت بأنّ العديد من الشركات الكبرى الصانعة للهواتف الذكية (مثل: آبل وسامسونغ وهواوي) تدعم جميع أنظمة الملاحة وتحديد المواقع العالَمية المتوفرة، لكن هذا لا يمنعنا من التفكير بإمكانية أن تقوم الشركات، بتأثير المصالح الجيوسياسية، بتصميم أجهزتها (أو جزءاً منها حسب جغرافيا التسويق مثلاً) بطريقة تسمح بالاتصال الحصري بمنظومة بعينها أو أكثر (من بين المنظومات الأمريكية والأوروبية والصينية والروسية) في حين تمنع الاتصال بغيرها، الأمر الذي يوسّع أهمية قضية الاستقلال التكنولوجي بأنّه يجب أن يكون متكاملاً ليكون أكثر جدوى.
بحسب تقرير القناة التلفزيونية الأمريكية، أُطلق أول قمر صناعي لمنظومة بايدو الصينية عام 2000 مغطّياً الصين فقط، أمّا اليوم في عام 2023، فتتألف كوكبة بايدو من 45 قمراً في الخدمة الفعلية (وهو رقم يتفوق على الـ 31 قمراً أمريكياً في GPS)، وهناك 30 من أقمار بايدو الصينية تنتمي للجيل الثالث الأحدث (BDS3) بالمقارنة مع 6 أقمار أمريكية فقط من الجيل الثالث (GPS3)، أما عدد المحطات الأرضية لمنظومة بايدو فهي نحو 120 محطة عبر العالَم.
وبحسب الإعلام الرسمي الصيني، خدمت منظومة بايدو قرابة 1.1 مليار مستخدم عام 2022، ولاحظت قناة CNBC الأمريكية أنّ خدمات بايدو توسّعت إلى عدد من بلدان العالَم التي فيها تغطية ضعيفة من منظومة GPS الأمريكية. وبحسب باربارا بيكر: «منظومتنا GPS باتت معرضة للخطر، ولسوء الحظ هي عرضة بسهولة لتعطيل خدماتها، مما يجعل من الصعب والخطير استخدامها على الأرض».
بدورها أعربت سارة سيوال، التي شغلت فيما سبق أيضاً مواقع في الحملة الأمريكية المعادية للصين تحت شعارات «حقوق الإنسان»، عن مخاوفها من تراجع هيمنة نظام GPS الأمريكي، مقابل الصعود الصيني لبايدو الذي، بحسب تعبيرها، سيعزز قوة «الحزب الشيوعي الصيني» في الصين والعالم. وأوضحت ما يلي: «هناك أجزاء من العالَم النامي، بما فيها إفريقيا وأجزاء من آسيا، وأحياناً أمريكا الجنوبية، حيث النظام الأمريكي فيها غير مرئي لأنّ كوكبة أقمار الـ GPS الأمريكية أصغر من أقمار بايدو الصينية. وليس هذا فحسب، بل إنّ المحطات الأرضية التي تضخّم دقة الإشارة غير موجود لـ GPS هناك، في حين أنها قد تكون موجودة، بل ويتزايد انتشارها لنظام بايدو الصيني». فضلاً عن ذلك تضيف سيوال بأنّ نظام بايدو الصيني يمتلك خاصية تقنية غير موجودة في GPS تسمى «التراسل ثنائي الاتجاه» يمكّن المستخدمين مثلاً من إرسال واستقبال الرسائل القصيرة SMS حتى دون اتصال بشبكات الهواتف الخليوية. ومن تطبيقاتها المفيدة الأخرى أيضاً عمليات البحث والإنقاذ في الكوارث الطبيعية، والسيارات ذاتية القيادة والذكاء الاصطناعي وغيرها. ولتوسيع هذه التقنية تحتاج الصين تطوير شرائح خاصة من أنصاف النواقل، كما أنها تعمل على التكامل بين «بايدو» وتكنولوجيا 5G وتطمح لنشرها أكثر ضمن مشروع الحزام والطريق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1141