الإمبراطورية المتداعية تستعين بــ«جثث الفضائيّين»

الإمبراطورية المتداعية تستعين بــ«جثث الفضائيّين»

«الأمريكيّون المؤمنون بالأطباق الفضائية المجهولة UFOs أكثر عدداً من مواطنيهم الذين يعتقدون بنظرية داروين في الاصطفاء الطبيعي»، بحسب استطلاعٍ للرأي عام 2015. وفي أحدث حلقات مسلسل التلاعب بالوعي، لإلهاء الأمريكيين على الأقل، عن التراجع المتسارع لبلادهم كقوة عظمى، تمّت في الكونغرس المكسيكي، في 13 أيلول الجاري، استضافة جيم ماوسان، أحد «خبراء» علمٍ زائف يسمّى «علم الأطباق الطائرة الغريبة Ufology» برفقة «جثتين متحجّرتين» مزعومتين «لكائنات فضائية عمرها 1000 عام ولديها 3 أصابع»، ما لقي انتقادات عدد من العلماء الذين رجّحوا بأنها مجرّد تماثيل مسروقة من البيرو، صنعتها حضارات شعوب أمريكا اللاتينية من عظام حيوانية وبشرية.

لا بدّ في البداية من التنويه إلى أنّنا لا ننفي هنا الفرضية العلمية لإمكانية وجود حياة خارج كوكبنا، وحتى احتمال وصول تلك الحياة إلى كائنات عاقلة، لكنّ المنهج المادي الديالكتيكي يطالبنا بالتحقيق العلمي الصارم بعيداً عن الخرافات والمبالغات. ويمكن للقارئ مثلاً مراجعة مقال علميّ سابق (العدد 992 من قاسيون 16/11/2020، بعنوان، أجوبة أوبارين عن نشوء الحياة اليوم وفي المستقبل) حول كتاب «نشوء الحياة على الأرض» للعالِم السوفييتي ألكسندر أوبارين، المتوفى عام 1980، ونكتفي هنا باقتباس منه «بلا شك يجب أن تنشأ الحياة باعتبارها أحد أشكال حركة المادة، في كلّ مرة تحدث فيها الظروف المناسبة لها في أيّ مكان في الكون. تُظهِرُ الأدلة الفلكية المعاصرة بشكل مقنع أنه حتى الآن في أجزاء مختلفة من مجرتنا، هناك نجوم جديدة وأنظمة كوكبية جديدة. لا شكّ أنّ عملية تطوّر المادة في العديد من هذه الكواكب تتبع مساراً مشابهاً لما اتبعته على الأرض، وبالتالي يجب أن تكون عملية تطور الحياة جارية عليها».
ولكن البحث العلمي بهذا الموضوع شيء، والترويج الأمريكي «الهوليوديّ» والتوظيف السياسي الإلهائيّ والتضليليّ حول «الأطباق الطائرة» و«الغرباء الفضائيين» شيءٌ آخر تماماً.

ثقافة الخُرافات الأمريكية

عام 1997 أظهرت إحصائيّة لقناة CNN وجريدة Time بأنّ 80% من البالغين في أمريكا يؤمنون برواية «قيام الحكومة بإخفاء معرفتها بوجود أشكالٍ من الحياة خارج كوكبنا». وأظهر استطلاع رأي عام 2015 بأنّ 54% من الأمريكيين يؤمنون بوجود الـ«الفضائيّين الغرباء»، أو الإيليانز aliens (كائنات فضائية عاقلة)، وأنّ 30% مقتنعون بأنّ «حياة ذكيّة خارج الأرض قد تواصلت معنا ولكنّ الحكومة تستّرت على الموضوع». وبحسب مسح لجامعة «تشابمان» في السنة نفسها حول «مخاوف الأمريكيين»، أعرب 42.6% من المستطلَعة آراؤهم عن اعتقادهم بأنّ الحكومة تخفي ما تعرفُه عن «مصادفة الفضائيّين الغرباء».

«المؤامرة» و«نافخو الصفّارة»

في كتابها الصادر عام 2019 بعنوان «جمهورية الأكاذيب، نظريات المؤامرة الأمريكية وصعودها المفاجئ إلى السلطة»، تشير الكاتبة آنا ميرلان إلى ظاهرة شائعة لدى ما تسمّيها «الثقافات التآمريّة»، تتمثّل بالاهتمام المتحمّس بالفرد الذي «يفضح المؤامرة»، والذي أوجدت اللغة الإنكليزية له مصطلح «نافخ الصفّارة» Whistleblower، حيث يظهر فجأة فردٌ واحد أو مجموعة قليلة «يفضحون الأسرار الخطيرة» التي يُفترض أنّ السّلطات أو نخب تأثير متآمرة تخفيها عن عامّة الناس. ولكن في الحقيقة لا يمكننا استبعاد أنْ يكون هؤلاء «الأبطال» في كثير من الحالات، ليسوا سوى عملاء استخبارات أو ربما مرضى نفسيين تستغلّهم السلطات في ترويج وتضخيم ما يحلو لها. واعتباراً من العام 2005 تقريباً، بدأت موجة جديدة من «نظريات المؤامرة» و«نافخي صفّارتها» تدور تحديداً حول «الأجسام الطائرة المجهولة» UFOs. ومن القصص المضحكة التي روّجت، لغرض سياسيّ غالباً، قصة رجل اسمه أندرو باسياغو، ادّعى أنّه سافر في سلسلة من «البعثات» إلى كوكب المرّيخ برفقة باراك أوباما عندما كان شابّاً. وفي عام 2014 ظهر شخصٌ آخر يسمّى غودي، ادّعى أنّ الجيش الأمريكي اختاره عندما كان طفلاً في المدرسة عام 1986 للمشاركة في برنامج عسكريّ سرّي، في قاعدة «كارسويل» الجويّة في تكساس، فكانوا يأخذونه بسيارة ثم ينزل بالمصعد إلى منشأة سرّية تحت الأرض ليجد 9 إلى 15 طفلاً آخرين بانتظاره. وادّعى بأنّه أدى خدمته العسكرية خارج كوكب الأرض، وبعد عودته قامت الحكومة الأمريكية «بتصغير عمره بآلة الزمن» ليعود طفلاً صغيراً من جديد، فيستيقظ في سريره دون أن يلاحظ أهله أيّ شيء.
ومما يدلّ على رعاية مؤسّساتية للخرافات الأمريكية، أنّ «غودي» هذا، ومئات من أصحاب القصص المماثلة، تجري استضافتهم في لقاءات سنوية لمنظّمة أمريكية «غير حكومية» NGO، تدعى «شبكة الـ UFO المتبادلة» أو MUFO اختصاراً، تأسّست عام 1969 كأقدم منظمة من نوعها في أمريكا، وتزعم أنها مجموعة «للبحث العلمي عن الأجسام الطائرة المجهولة». ومن «نافخي الصفّارة» الآخرين، راندي كرامر، الذي قال إنه جنديّ سابق في البحرية الأمريكية (المارينز) وقضى خدمته على المرّيخ لمدّة 17 عاماً وعلى سفينة فضاء سرّية لمدة 3 سنوات. وكان أحد أشهر وأقدم «نافخي الصفّارة» بشأن الـ UFO هو بوب لازار، الذي زعم أنّه «عالِم» مهمّته «الهندسة العكسية» لسفن الفضاء التابعة «للمخلوقات الفضائية الغريبة».
يجدر بالذكر أيضاً أنّ الروايات المروّجة أمريكياً بشأن ظواهر فضائية غريبة تعود على الأقلّ إلى زمن الحرب العالمية الثانية، وكان لها دورٌ في «شيطنة» الاتحاد السوفييتي أو ربّما محاولة نسب التقدّم العلميّ والعسكري للسوفييت إلى «ذكاء فضائي»، فكثيراً ما مزجت واشنطن بين الخيال الفضائي والإشارات إلى مركبات ومناطيد تجسّس سوفييتية وما شابه. وساهمت حملات العداء للشيوعية قبل وخلال الحرب الباردة في تهيئة «الوعي الاعتيادي» الأمريكي لتقبّل كثير من «نظريّات المؤامرة» ولو عبر إبراز قدرة الحكومة الأمريكية واستخباراتها على القيام بأعمال سرّية وحتى «عجائبية». ولعبت دوراً في هذا السياق مثلاً حملات «المكارثيّة» لملاحقة الشيوعيين، ومشروع «كوينتيلبرو» لمكافحة التجسس بين عامي 1956 و1971، المدار من الـ FBI لمراقبة واختراق المنظّمات السياسية وخاصةً الشيوعية أو المعارضة للحكومة الأمريكية، وخاصة أثناء صعود الحراك الشعبي والسياسي المعارض للغزو الأمريكي لفيتنام. وكان من المستهدفين بالمشروع، الحزب الشيوعي الأمريكي، منظمات نسوية، حركة القوة السوداء ومارتن لوثر كينغ، وحركات من بقايا الهنود الحمر الأصليين وغيرها.
استمرّ هذا النهج الأمريكي وتمّ تطويره بأشكال أحدث تشمل الحرب النفسية وتزوير مستندات ونشر تقارير إعلامية كاذبة (مثل مسرحية «الفضائيين المحنَّطين» التي أشرنا إليها في المقدّمة). وسبق ذلك الترويج لشهادة الضابط الطيّار الأمريكي السابق، ريان غريفز، أمام الكونغرس الأمريكي في تموز الماضي، حول تجربته المزعومة مع الفضائيين (وبالمناسبة حضر غريفيز وتكلّم أيضاً في جلسة الكونغرس المكسيكي التي أشرنا إليها في المقدمة). ويقال بأنّ شبكة «نتفلكس» ستنتج أفلاماً ومسلسلات جديدة قريباً عن الـ Aliens. وكلّ هذا يبدو متناغماً مع إستراتيجية أوسع للتلاعب بالوعي.

انتقاد «السماء» بدلاً من الأرض

في «مقدمة لنقد فلسفة الحق لدى هيغل»، 1844، يلخّص ماركس التحوّل الفلسفي التقدّمي إلى التأويلات المادّية والعلمية على حساب المثالية والدينية لتفسير الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية «يتحوّل نقدُ السماء إلى نقد الأرض، ونقدُ الدين إلى نقدِ القانون، ونقد اللاهوت إلى نقد السياسة».
أمّا وكالة الاستخبارات الأمريكية، فيبدو أنها تحرص على التأثير في عامة الناس لكي ينتهجوا خطاً معاكساً ورجعيّاً في التفكير، ضمن إستراتيجية الإلهاء بالخرافات وإبعاد أغلبية الناس عن التفكير العلمي بالأساس المادّي والجذري الاقتصادي-السياسي الكامن وراء مشكلاتهم وبالتالي تنظيم صفوفهم لمقاومتها، وخاصة مع التراجع الشامل للإمبراطورية الأمريكية الذي نشهده منذ سنوات ويتسارع اليوم بشدّة تجعل السلطات الإمبريالية تستميت لإلهاء الشعوب بالسخافات. ففي موجز للـ CIA على موقعها الرسمي حول رأيها في «الأجسام الطائرة غير المحدَّدة» تذكر صياغة خبيثة ترمي إلى استدامة الحيرة والشكّ، وتعكس نيّة الوكالة مواصلة نشر الخرافات، والتيئيس المتعمَّد من أيّ حلول علميّة للمسألة، حيث نقرأ ما يلي، «مثل نظريات المؤامرة حول اغتيال جون ف. كينيدي، فإنّ قضية الـ UFO ربّما لن تنتهي قريباً، مهما فعلتْ أو قالتْ وكالةُ الاستخبارات الأمريكية. إنّ الاعتقاد بأنّنا لسنا وحدنا في الكون جذّابٌ بشدّة عاطفياً، وغيابُ الثقة في حكومتنا منتشرٌ للغاية بحيث يجعل القضية غير قابلة للحلّ بالدراسات العِلمية التقليدية ذات التفسيرات والأدلّة العقلانية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1140