الكيميائيات الصُّنعية و«اختفاء» الذكور

الكيميائيات الصُّنعية و«اختفاء» الذكور

تتزايد الأدلة على أنّ خصوبة الرجال تتدهور، فلقد تناقص تعداد النطاف لديهم إلى النصف خلال النصف الثاني من القرن العشرين تقريباً، هذا إضافة إلى شذوذات النطاف وتزايد نسبة العقم. كذلك تضاعف معدّل سرطان الخصية في غضون عشرين عاماً. ويتزايد اختلال التناسب بين تعداد المواليد الذكور إلى الإناث باتجاه تناقص الذكور. والسؤال هو: لماذا؟! هذا ما حاول أنْ يجيب عنه الوثائقي الكندي «الذَّكَر المختفي» The Disappearing Male عبر استضافة آراء عدد من الأطباء والخبراء والباحثين.

بحسب الوثائقي المذكور الذي تمّ نشره عام 2008 في كندا، يعتقد عدد من العلماء أنّ اللّوم الأساسي في هذه الظاهرة يقع على أنواع معيّنة من المواد الكيميائية الصناعية، حيث تتداخل مع المنظومة الهرمونية للذكور، والمشكلة أنّ هذه المواد الكيميائية موجودة حولنا في كلّ مكان.
قبل سبعين عاماً كانت المواد الكيميائية الصناعية أقل بكثير وكان ما يزال العديد منها مجرّد ابتكاراتٍ اخترعت للتو. ومنذ ذلك الوقت أدخلت الصناعات الكيميائية إلى حياة البشر حوالي 90 ألف مركّب كيميائي بشريّ الصُّنع، والمشكلة أنّ معظمها لم يتم اختباره فيما إذا كان له أضرار على صحة البشر.
من أمثلة ذلك مركّبات ابتُكِرت لتقسية البلاستيك وجعله غير قابل للكسر، وكذلك طائفة أخرى من الكيماويات هي «الفالات» التي بالعكس، تجعل البلاستيك مرناً وطيّعاً. وهناك الكيماويات التي تستعمل لجعل الأقمشة تعيش طويلاً دون أنْ تتهرّأ بسرعة، وتلك التي تجعل المصنوعات مقاومة للَّهب والاحتراق، وغير ذلك.
تعتقد الدكتورة إليزابيث غوليت، بروفسورة بعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا) في جامعة فلوريدا، بأنّ مخاطر هذه المواد الصنعية لا يتم الحديث عنها كثيراً لأنها «مرعبة جداً».
في عيادة الخصوبة في جامعة روتشستر (في نيويورك بالولايات المتحدة)، عمل الباحثون على تتبع المشكلة وفحص جودة النطاف لدى الذكور، ولاحظوا بأنّ تراجعها كان مفاجئاً ومطَّرداً؛ انخفض تعداد النطاف لدى الشباب في سن الدراسة الجامعية باطّراد خلال العقود القليلة الماضية، بحيث بات الشاب وسطياً ينتج عدداً من النطاف نصف ما كان ينتجه والدُه، وما يصل إلى 50% منها نطافٌ غير طبيعية.
وتقول الدكتورة شانا سوان مديرة مركز الوبائيات التكاثرية في جامعة روتشستر، بأنّه حتى منظّمة الصحة العالمية بدأت تخفّض من المعايير المعتَمَدة في المخابر لتصنيف الرّجل على أنه «عقيم»، ففي وقت سابق فيما مضى كان المعيار حوالي 60 مليون نطفة في الميلي لتر، ثم تم تخفيضه إلى 40 مليوناً، والآن 20 مليون، ويجري الحديث عن خفضه إلى 10 ملايين.

أدلة من «التماسيح»

فكرة أنّ الكيميائيات تؤثّر في خصوبة الذكور هي حقيقة ثابتة لدى علماء أحياء الحياة البرّية. منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين، يبحث بروفسور علم الحيوان لويس غوليت، في التطور الجنسي لدى ذكور التماسيح، والتي تعيش في بيئة شديدة التلوّث وسط ولاية فلوريدا الأمريكية. يقول غوليت إنّ هذه البيئة تحوي تلوثاً بمزيج من مواد سامّة، بما فيها المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية والـ DDT. واكتشف غوليت بأنّ الأعضاء الجنسية لدى ذكور هؤلاء التماسيح كانت أصغر بنسبة الثلث من حجمها الطبيعي، ونسبة التكاثر في هذه المستعمرة أقل بـ 90% من الوسطي الطبيعي. وأكّد هذا العالِم: «نحن اليوم نملك أدلّة على أنّ هذه الكيميائيات، مثل المبيدات على سبيل المثال، تؤثّر على تطوّر الخصى والأعضاء التناسلية... لدرجة أنّنا لاحظنا مستويات التستوسترون في ذكور التماسيح البالغة هنا قريبة من مستوياته لدى إناثهم». ويعتقد الدكتور غوليت بأنّ تأثيرات ضارة أيضاً يمكن أن تصيب ذكور البشر بسبب المواد الكيميائية نفسها.
من المعروف أنّ التستوستيرون (الهرمون الجنسي الذكري) يلعب دوراً أساسياً في التطور الجنسي الطبيعي للذكور، وتحدث مشكلة عندما تُلحق بعض المواد الكيميائية الضَّرر بالإنتاج الطبيعي لهذا الهرمون أو بوظيفته، مما يعيق التطور الطبيعي للأطفال الذكور ونضجهم الجنسي. وربما يكون هذا من أسوأ التأثيرات «غير المقصودة» التي نجمت عن «الثورة الكيميائية» للقرن العشرين.

ضريبة «ثورة البلاستيك»

تكاد الصناعات الكيميائية لا يتجاوز عمرها مئة عام أو نحو ذلك، ولكنها حوّلت العالَم من حولنا تحويلاً عميقاً. وأدّت الحرب العالمية الثانية إلى رفع الطلب على عدد لا يحصى من المنتوجات الجديدة، بما في ذلك: الأدوية، المضافات الغذائية، المطّاط الصناعي، النايلون، والمبيدات والأسمدة.
وفي أوائل الخمسينات، صارت الصناعات الكيميائية تنتج مئات ثم آلاف المركّبات الجديدة. وأحد هذه المنتوجات أحدث ثورةً في طريقة عيشنا: إنه «البلاستيك». ونظرياً، فإنّ جميع هذه المركّبات مشتقّة من مصدر واحد: النفط.
الكيميائيات الصنعية جعلت الحياة العصرية ممكنة. في بداية الأمر، لم يكن سوى القليل من البشر يعتقدون بأنّها قد تكون خطيرة. على سبيل المثال، ساد لسنوات الاعتقاد بأنّ مادة «دي دي تي» غير ضارّة، بل ونافعة. ولكن بحلول ستينات القرن العشرين، بدأت بيئة عيشنا الطبيعية كبشر تبدي مظاهر مختلفة، مع الأضرار التي ألحقتها بها أمثال هذه المواد الضارة.

التأثيرات على الأجنة الذكور

حتى سنوات قليلة مضت، كانت هناك مبالغة في تقدير مستوى الحماية الذي يستطيع تقديمه «الحاجز المشيمي» بين الأم والجنين في رحمها.
في الأسبوع السابع من الحمل، تبدأ الأعضاء الجنسية للجنين الذكر بالتطور. ويقدّر بأنّ التعرض للمواد الكيميائية ربما يكون مسؤولاً عن زيادة بحوالي 200% في حالات العيوب الولادية للأعضاء التناسلية الذكرية. وبعد الولادة يبدأ الرضيع بالتعرّض للكيميائيات التي يمكن أن تصل إليه عبر حليب الأم.
أظهرت دراساتٌ ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة الإجهاض بالأجنة الذكور لدى البشر. وتزداد الأدلة على أنّ مواد كيميائية صنعية معيّنة تقتلهم في أرحام أمهاتهم. فعلى سبيل المثال هناك حالة مدروسة معروفة لضاحية سكنية اسمها «أمجينونغ» في مقاطعة أونتاريو الكندية، وهي محاطة بواحد من أكبر تجمّعات مصانع البتروكيماويّات في كندا، وتطلق إلى الجو وسطياً كلّ سنة أكثر من 130 ألف من المواد الكيميائية السامّة (بما فيها البنزين والديوكسين والزئبق). في عام 2006 باتت هذه الضاحية السكنية معروفة عالمياً بقصّتها المأساوية بوصفها المجتمع الذي يتميّز بأحد أقل معدّلات المواليد الذكور؛ فبدلاً من التساوي التقريبي الطبيعي المعتاد بعدد المواليد الذكور والإناث في العالَم، فإنّ هذا المجتمع السكاني الذي يعيش بجانب مصانع التلوث المذكورة، لديه مواليد ذكور أقلّ من نصف المواليد الإناث، وخاصةً بين عامي 1999–2003.

«الفالات»

«الفالات» من المشتقات البتروكيميائية الشائعة التي تستعمل في كثير من المنتوجات، من مواد التجميل إلى الأنابيب الوريدية المستعملة في الإجراءات الطبية والجراحية، حتى تغليف الأطعمة وألعاب الأطفال. وقامت الدكتورة شانا سوان، مديرة مركز علم الوبائيات التناسلية في جامعة روتشيستر، بدراسة «الفالات» حيث لوحظ وجود هذه المادة في أجسام الجميع تقريباً في الولايات المتحدة، وأكثر وفرة في النساء بسن النشاط الإنجابي، مع وجود بيانات وأدلة على تأثير «الفالات» على ولادات الذكور. وتتحدث الدكتورة سوان عما بات يسمى «متلازمة الفالات» حيث يؤدي تراكم هذه المادة في دم الأم وحليبها إلى الإضرار بتطور الجهاز التناسلي لجنينها ووليدها الذكر. والمشكلة لا تقف هنا، فالكثير من ألعاب الأطفال اللدنة (الطرية)، تحتوي على «الفالات»، وتعتبر أساساً في صناعة ما يسمى «الألعاب الآمنة» نظراً لأنها على المستوى العياني طريّة ولا تحوي حواف حادة قد تجرح الطفل، ولكنّها على المستوى الجزيئي المجهري يمكن أنْ تتسرّب منها مادة الفالات لتدخل جسم الطفل.
ويقدَّر بأنّ ثلاثة أرباع العلامات التجارية لمواد التجميل، بما فيها مزيلات الرائحة، ومصفّفات الشعر، و«الشامبو»، وغسول الجسم، تحتوي على «الفالات». ويبدو أنّ صانعي هذه المنتوجات يفضّلون هذه المادة نظراً لخصائصها التي تمكّنها من اختراق الجلد حاملةً معها العطور وما إلى ذلك من مواد مما يطيل التأثير «التجميلي» المطلوب.
في ظلّ سيطرة المصالح الربحية الرأسمالية الضيّقة، واصل أرباب الصناعات الكيميائية على مدى عقود رفضَ إخضاع منتوجاتهم لما يكفي من الأبحاث والفحوصات لضمان خلوّها من تأثيرات ضارّة محتملة على النمو الجسدي للأطفال. والمشكلة هنا أنّ الأضرار قد لا تقتصر على حالات فردية بل تحمل خطر التأثير على بقاء النوع البشري بأكمله.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1115
آخر تعديل على الإثنين, 27 آذار/مارس 2023 11:19