دراسة حديثة: المدن الرأسمالية صارت أكثر ضرراً لنمو الأطفال

دراسة حديثة: المدن الرأسمالية صارت أكثر ضرراً لنمو الأطفال

يعتبر النمو والتطور الأمثل للأطفال والمراهقين أمراً حاسماً من أجل حياة صحيّة طوال العمر. نشرت دراسة حديثة في مجلة الطبيعة بالاعتماد على بيانات ضخمة، شملت 2325 دراسة سكانية أخرى، تناولت قياسات الطول والوزن من 71 مليون مشارك، من أجل الإبلاغ عن الطول ومشعر كتلة الجسم (BMI) للأطفال والمراهقين بين 5 و19 عاماً من العمر، على أساس مكان سكنهم في الريف أو المدينة، وشملت الدراسة بيانات من 200 بلد مأخوذة بين عامي 1990 و2020. اللافت في نتيجة الدراسة ملاحظتها ميلاً لتناقص تأثير إيجابي للمدن كان موجوداً سابقاً (في التسعينات) مقارنة بالريف في تعزيز نمو الأطفال وتطوّرهم، وخاصة في «الغرب»، فيما يمكن أن نقرأه كفشلٍ متزايد للرأسمالية، انكشف أكثر في العقود الأخيرة، وهي التي لطالما ارتبطت تاريخياً بتوسيع المدن وتلويثها على حساب الأرياف واستمرار التناقض بين المدينة والريف.

الدراسة التي نشرت في مجلة «الطبيعة» في 29 آذار 2023، لاحظت بأنّ الأطفال والمراهقين الذين يقطنون في المدن كانوا وسطياً أطول قامةً من أقرانهم الريفيين في عام 1990، وذلك في جميع البلدان ذات الدخل المرتفع تقريباً (مع بعض الاستثناءات القليلة). وبحلول العام 2020 أصبحت هذه «الأفضلية» الحضريّة، المتعلقة بطول القامة، تتناقص في معظم البلدان لدرجة أنها انقلبت إلى عسكها في العديد من البلدان الغربية ذات الدخل المرتفع، وتحولت إلى ميزة سلبية لحياة المدن فيها.
ومن اللافت أنّ الاستثناءات، بحسب الدراسة، كانت لدى الصبيان الذين يعيشون في معظم بلدان إفريقيا شبه الصحراوية وفي بعض بلدان أوقيانوسيا، وجنوب آسيا ووسطها والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ففي هذه البلدان أظهرت الدراسات المتعاقبة بأن الصبيان القاطنين في الأماكن الريفية إما أنهم لم يكتسبوا الكثير من طول القامة أو حتى أصبحوا أقصر، وبالتالي تأخّروا من هذه الناحية عن أقرانهم في مدن البلد نفسه.
إنّ الفرق بين وسطي مشعر كتلة الجسم للأطفال (المقيس بعد تعديله ليتناسب مع العمر)، في المناطق الريفية والحضرية، بلغ أقل من 1.1 كيلوغراماً على المتر المربّع في أغلبية البلدان (مشعر كتلة الجسم يساوي الوزن بالكيلو غرام مقسوماً على مربّع طول الجسم بالمتر). وضمن هذا النطاق الضيق، تزايد مشعر BMI قليلاً في المدن أكثر من الأرياف، باستثناء جنوب آسيا، وإفريقيا شبه الصحراوية وبعض بلدان أوروبا الوسطى والشرقية.
وتقول الدراسة إنّ نتائجها تبين أنّه في معظم العالم، بدأت في القرن الحادي والعشرين تضعف الأفضلية بالنمو والتطور للأطفال، والتي كان يتمتع بها سابقاً أطفال المدن، بينما حدث العكس في كثير من بلدان إفريقيا شبه الصحراوية حيث تضخّمت هذه الميزة للمدن مقارنة بالقرى.

تأثيرات وأسباب

إنّ نمو وتطور الأطفال بسن المدرسة وكذلك المراهقين (بأعمار بين 5 إلى 19 سنة) يخضع لتأثيرات تغذيتهم وبيئتهم في المنزل والمجتمع والمدرسة. يساعد النمو والتطور الصحيّان في هذه الأعمار على تقوية التحصيل التعليمي والصحة البدنية ويخفّف من حدوث تأخّر وقصور بهما في الطفولة الباكرة، والعكس صحيح. كما ويكون لذلك تأثيرات مشابهة على الصحة والحياة طوال العمر.
حتى وقت قريب مضى، لم يكن هناك انتباه كافٍ لموضوع نمو وتطور الأطفال الأكبر عمراً والمراهقين مقارنة بالتركيز الأكبر الذي كان موجَّهاً إلى الطفولة الباكرة ومرحلة البلوغ. وترافقت زيادة الانتباه للصحة والتغذية خلال سنوات المدرسة، مع الافتراض القائل بأنّ الاختلافات في التغذية والبيئة تقود إلى أنماط مختلفة من ناحية النمو والتطور لهذه الأعمار بين المدن والأرياف بحيث تكون صحة الطفولة والفتوّة أضعف في المدن وأقوى في الأرياف، وذلك على الرغم من بعض الدراسات التجريبية التي أظهرت بأنّ جودة الطعام والتغذية أفضل في المدن.
ومن الضروري وجود بيانات حول نتائج النمو والتطور خلال عمر المدرسة، إلى جانب بيانات عن كفاءة تدخّلات وسياسات معيّنة، من أجل اختيار سياسات وبرامج محددة وإعطائها الأولوية بالتطبيق وهي تلك التي تعزز الصحة والعدالة الصحية لكل السكان في المدن والريف.
كما أنّ توافر بيانات عالمية متسقة وقابلة للمقارنة من شأنه أن يساعد في تعلم الدروس وتبادل الخبرات حول الممارسات الجيدة والابتعاد عن الأساليب الفاشلة.
ومع ذلك، بحسب الدراسة، قلّما نجد على المستوى العالمي بيانات كافية بشأن مسارات النمو في الأرياف والمدن، على الرغم من أهمية هذه المرحلة التكوينية من عمر الطفل، بل ما زال الاهتمام موجهاً أكثر للأعمار تحت 5 سنوات. وإذا وجدت دراسات، فإنها إما تكون مقتصرة على بلد واحد، أو نقطة زمنية واحدة، أو تركز مثلاً على جنس واحد أو شريحة عمرية ضيقة.
والدراسات القليلة التي غطّت أكثر من بلد واحد كانت تركّز بمعظمها على الفتيات بعمر أكبر، واستعملت على الأكثر بضع عشرات قليلة من مصادر البيانات، وبالتالي لا يمكن التعويل عليها في قياس منهجي لمعرفة كيف تتجه الأمور في هذا المجال على المدى الطويل.
وبالتالي تميل الكثير من السياسات والبرامج الهادفة إلى تحسين النمو الصحي والتطور للأطفال والمراهقين بعمر المدرسة، إلى التركيز بشكل ضيّق وشبه حصري على ميزات محددة للتغذية أو البيئة سواء في المدن أو الأرياف. بينما لم يتم إيلاء سوى قليل من الانتباه إلى التشابهات والاختلافات بين النتائج ذات الصلة في هذه الشروط أو بالتباين بين المدينة والريف عبر البلدان.
بالنسبة للدراسة الحالية، فإنّ عملية الإبلاغ عن القيمة الوسطية لمشعر كتلة الجسم، تناولت الأطفال والمراهقين بعمر المدرسة، القاطنين في الريف والمدينة وعبر 200 بلد وفي الفترة بين 1990 و2020. إنّ كلاً من هذا المشعر إضافة إلى طول القامة هما من المقاييس البشرية (الأنثروبومترية) للنمو والتطور التي تتأثر بجودة الغذاء ومدى السلامة الصحية لبيئة العيش، ولهما قيمة تنبؤية عالية لمدى صحيّة وجودة الحياة في عدد من نماذج الدراسات، والتي أظهرت بأنّ امتلاك قيم منخفضة من طول القامة وقيم منخفضة جداً من مشعر كتلة الجسم، هي عوامل تزيد خطر الأمراض والوفاة، كما أنّ قصر القامة يضرّ بالتطور المعرفي ويقلل التحصيل التعليمي وإنتاجية العمل في المراحل اللاحقة من الحياة.
أما التمتع بقيم عالية لمشعر كتلة جسم BMI في هذه الأعمار، فإنه يزيد الخطر على مدى الحياة لاكتساب الوزن الزائد وللبدانة إضافة إلى عدد من الأمراض غير السارية، وقد يساهم في تحصيل تعليمي سيّئ.

المقارنة حسب البلدان

في عام 1990، كان صِبيان وفتيات المدن يتمتعون بأفضلية طول القائمة (أي كانوا أطول) مقارنة بأقرانهم الريفيين. وكان الاستثناء من هذه القاعدة يكمن في البلدان مرتفعة الدخل، حيث كانت هذه «الأفضلية الحضرية» إمّا مهملة لا تذكر (أكثر من 1.2 سنتيمتراً فقط للطول الوسطي المعايَر بحسب العمر، وتراوح «الاحتمال الخلفي» pp للأطفال القاطنين في المناطق المدنية بأنْ يكونوا أطول قائمةً بين قيمتَي 51% إلى أكثر من 99%). [في الإحصاء البايزي، الاحتمال البعدي أو الخلفي Posterior Probability لحدث عشوائي معيّن هو الاحتمال الشرطي الذي يتم تعيينه بعد أخذ الأدلة الخاصة بذلك الحدث أو خلفية الحدث بنظر الاعتبار].
أو أنه كانت هناك أفضلية ريفية صغيرة، مثلاً في بلجيكا وهولندا والمملكة المتحدة (حيث قيمة احتمال PP للأطفال في المناطق الريفية هناك بأن يكونوا أطول قامةً كان يتراوح بين 0.53 وأكثر من 0.95).
بينما كانت أعلى الفروقات بين المدن والأرياف عام 1990 قد سجلت في بعض بلدان أمريكا اللاتينية (المكسيك وغواتيمالا وبنما والبيرو)، وشرق وجنوب شرق آسيا (الصين وإندونيسيا وفيتنام)، وأوروبا الوسطى والشرقية (بلغاريا وهنغاريا ورومانيا) وإفريقيا شبه الصحراوية (جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا).
إنّ أفضلية طول القامة المَدينيّة لدى الفتيان والفتيات في البلدان المذكورة أعلاه تراوحت بين 2.4 إلى 0.5 سنتيمتراً، مع احتمال خلفي PP للأطفال الذين يعيشون في المدن أن يكونوا أطول قامةً من الأطفال الذين يعيشون في الأرياف بنسبة تفوق 99%.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1116
آخر تعديل على الأحد, 09 نيسان/أبريل 2023 09:43