الحاجة لتغيير المنهج السائد برعاية الأبحاث لعدم خسارة «المغمورين»
مستشهداً باكتشافات رئيسية حديثة في الفيزياء والرياضيات (مثل خواص الغرافين، والموصلية الفائقة بالحرارة العالية، وبرهان رياضي حديث يتعلّق بالأعداد الأولية)، يشرح كتاب «العِلم والأزمة الاقتصادية» إخفاقات النظام السائد في تقييم الأبحاث، لأنه يمكن بسهولة ألّا يموّل باحثين لأنهم مغمورون أو يعملون في مؤسسات وجامعات «متدنّية التصنيف» بالمعايير السائدة. الكتاب من تأليف فرانشيسكو لابيني (2016)، وهو ناشط في حركة «العودة إلى البحث الأكاديمي»، التي تعارض محاولات الحكومة الإيطالية فرض الطريقة البريطانية في قولبة تنظيم البحث العلمي، وتنتقد المنهجية النيوليبرالية السائدة في التمويل وتطالب بمنهجية جديدة لتوزيعه العادل والمتوازن بدل تركيزه في أيدي نخبة صغيرة من الباحثين والمؤسسات.
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان
الغرافين (اللعب بشريط لاصق)
في السنوات الأولى من قرننا الحادي والعشرين، كان اثنان من الباحثين بالفيزياء من أصل روسي (أندريه جايم وكوستيا نوفوسيلوف) قد هاجرا إلى المملكة المتحدة للعمل في جامعة مانشستر. وكانا يدرسان رقائق مادة الغرافيت الكربوني، المادة التي تتكون منها أقلام الرصاص العادية، في محاولة للتحقق من خصائصها الكهربائية. فقررا محاولة الحصول على طبقات رقيقة من الغرافيت بمساعدة شريط لاصق، لتقشير طبقة رقيقة من الغرافيت ثم فصل الطبقات المتتالية بشكل متكرر حتى يتمكنا من إنتاج عيّنة بسماكة بضع ذرات فقط. ليأتي اكتشاف الخصائص المذهلة للغرافين عن طريق ما يمكن اعتباره «صدفة»، لأنّ هذين الفيزيائيَّين كانا يعملان على الغرافيت لأغراض أخرى تماماً، عندما لاحظا أن بعض الزملاء استخدموا الشريط اللاصق لتنظيف عينات المعادن قبل وضعها تحت عدسة المجهر.
الغرافين بلوّرة «ثنائية الأبعاد» من الكربون النقي، وهي مادّة أرقّ وأقوى من أية مادة أخرى معروفة حتى الآن، أقوى بنحو 100 مرة من الفولاذ. متر مربّع من الغرافين، أرقّ بألف مرة من ورقة دفتر عادية، إذا صنعت منه أرجوحة فستكون قوية بما يكفي لاحتضان قطة تزن أربعة كيلوغرامات، على الرغم من أن هذه الأرجوحة الغرافينية لا تزن أكثر من شعرة واحدة من شارب القطة. والغرافين موصل جيّد للكهرباء، وقابل للمطّ وشفاف تقريباً، ويوصل الحرارة بشكل أفضل من أية مادة أخرى معروفة وله خصائص فيزيائية أخرى مدهشة.
مُنح جايم ونوفوسيلوف جائزة نوبل في عام 2010 لتجاربهما الرائدة المشتركة منذ 2004 التي أوصلتهما لابتكار طريقة لنقل طبقات الغرافين فائقة الرقّة من الشريط اللاصق إلى رقائق السيليكون، وهي مادة المعالجات الدقيقة للحواسيب، وبالتالي تمكين دراسة الخواص الكهربائية للغرافين. كتبت لجنة نوبل عن الباحثَين: «المَرَحُ من سماتهما المميزة، يتعلم المرء دائماً شيئاً ما في هذه العملية، ومن يدري، قد تفوز بالجائزة الكبرى».
في الواقع، كان جايم مشرفاً على أطروحة دكتوراه نوفوسيلوف، ويتمتع بالفعل بسمعة طيّبة في التجارب الأصليّة. استخدم بشكل فكاهي ضفدعاً في عام 1997 لعرض إحدى دراساته للمغناطيسية، في عمل نال عام 2000 جائزة IgNobel، وهي جائزة تُمنح سنوياً لعشرة باحثين لأبحاث «غير محتملة... تجعل الناس يضحكون أولاً، ثم يفكرون». كما اخترع نوعاً جديداً من الأشرطة من أقدام «أبو بريص» الذي يمشي على الجدران. كدليل آخر على روحه المرحة، نشر جايم عام 2001، ورقة علمية ظهر فيها كمؤلف مشارك إلى جانب «مؤلّف» ثانٍ اسمه H.A.M.S ter Tisha ليتبيّن لاحقاً أنه لم يكن سوى اسم فأر الهامستر الذي يربّيه هذا الباحث كحيوان أليف.
تبدو الاستخدامات المحتملة للغرافين لا حدود لها تقريباً، وتتراوح التطبيقات الممكنة بين أنواع جديدة من الإلكترونيات المرنة التي يمكن طيّها في الجيب، إلى جيل جديد من أجهزة الكمبيوتر الصغيرة جداً، والألواح الشمسية عالية الكفاءة، والهواتف المحمولة فائقة السرعة، وما إلى ذلك. يمكن أيضاً استخدام الغرافين لتحلية مياه البحر لجعلها صالحة للشرب، ويمكن أن يمتص النفايات المشعة، وغير ذلك... ولهذه الأسباب، ينظر البعض إلى الغرافين كقوة دافعة لثورة صناعية جديدة تعتمد على المكونات الإلكترونية القابلة للتحلّل الحيوي والمستدامة. نتيجة لذلك، وعلى الرغم من منهجية تمويل الأبحاث المنحازة التي تتبعها الحكومة البريطانية، قامت، بعد أن ظهر الاكتشاف على يد الباحثَين المهاجرَين الروسيَّين، بدعم المعهد الوطني الجديد للغرافين في مانشستر، بتكلفة 61 مليون جنيه إسترليني. كما موّلت المفوضية الأوروبية مشروعاً يهدف إلى تطوير التكنولوجيا المتعلقة بالغرافين بحوالي مليار يورو.
يشترك اكتشاف الغرافين كثيراً مع اكتشاف الموصلية الفائقة في درجات الحرارة المرتفعة، من حيث إن كليها تم إنجازه بواسطة فريق صغير من الفيزيائيين يتألف من باحث أكبر عمراً مع متعاون شاب عمل على مواضيع متخصصة بعيداً عن دائرة الضوء. كانت الفهارس «الببليوغرافية المترية» (التي تقيس مدى شهرة وانتشار باحث ما) لجايم ونوفوسيلوف لا تدل على أكثر من كونهما اثنين من المهنيّين العاديين، أي لم يكن ثمة شيء «استثنائي» في التقييم، قبل اكتشافهما بخصوص الغرافين عام 2004. بعد ذلك نما عدد الاستشهادات بهما أضعافاً مضاعفة، من بضع مئات إلى عشرات الآلاف في السنة.
أعداد أوّلية «على الماشي»
سبق لعالِم الرياضيات البريطاني الكبير غودفري هارولد هاردي (1877–1947) أنْ قلّل من إمكانية اكتشافات مهمة في عمر متقدّم عندما قال: «قد يظل عالِم الرياضيات مؤهّلاً بما يكفي في الستين من العمر، لكن ليس من الواقعي أن نتوقّع منه أفكاراً أصلية [بذلك العمر]».
لكن وبخلاف ذلك، تفاجأ المجتمع الرياضي الدولي في عام 2013، بنشر الباحث الصيني-الأمريكي المجهول يتانغ جانغ Yitang Zhang، وهو في سن الثامنة والخمسين، حلّاً لواحدة من أقدم المسائل العالقة المتعلقة بالأعداد الأولية (الأعداد الطبيعية التي لا تقبل القسمة إلا على نفسها وعلى الواحد)، والمعروفة باسم «حدسيّة الأعداد الأوّلية التوأمية». فلقد استطاع جانغ تقديم برهان على نظرية أصبحت بسرعة علامة بارزة في خصائص الأعداد الأولية. وعلى الرغم من أن إقليدس قد أظهر بالفعل، في عام 300 قبل الميلاد، أنّ هناك عدداً لا حصر له من الأعداد الأولية، لكن لم يتم العثور على صيغة تولّد الأعداد الأولية، بل يبدو أنها تظهر بشكل عشوائي. مثلاً، هناك 15 عدداً أولياً أكبر من الواحد وأصغر من الخمسين، هي: 2، 3، 5، 7، 11، 13، 17، 19، 23، 29، 31، 37، 41، 43، 47. وهناك 25 عدداً أولياً بين واحد ومئة، و168 عدداً أولياً بين واحد وألف، أما بين واحد ومليون فيوجد 78498 عدداً أولياً. وعندما تصبح الأعداد الأولية أكبر تصبح أيضاً أكثر ندرة، بحيث تزداد المسافات بينها. حدّد إقليدس أنه سيكون هناك دائماً أعداد أولية أعلى، لكن لم يصلنا منها شيء عن المسافة التي يمكن أن تفصل بين عددين أولين. الجديد الذي جاء به الرياضي الصيني يتانغ جانغ هو أنّ هناك عدداً لا نهائياً من أزواج الأعداد الأولية التي تبلغ المسافة الفاصلة بينها 70 مليون أو أقل، الأمر الذي اعتبر نتيجة مهمّة جداً لنظرية الأعداد.
لم يواجه جانغ مشكلات بالحصول على التقدير لعمله هذا من خلال نظام «مراجعة الأقران». كانت مهنة تشانغ الأكاديمية غير مميزة إلى حد ما، وعندما كتب مقالاً في المجلة العالمية الرائدة «حوليات الرياضيات» Annals of Mathematics، كان محاضراً يبلغ من العمر 58 عاماً في جامعة غير معروفة، «جامعة نيو هامبشاير». وفي سيرة حياته أنه عمل بوظائف «متواضعة»، تنقّل بين العمل كمحاسب، إلى عامل توصيل مأكولات (ديلفري) في أحد مطاعم نيويورك، وفي فندق في كنتاكي، وأخيراً في متجر للشطائر. ومن هنا العنوان المازح الذي وضعه الكاتب لهذه الفقرة «أعداد أولية على الماشي». ويتساءل مؤلّف الكتاب منتقداً المعايير السائدة في تمويل الأبحاث، أمام هكذا «سيرة ذاتية» (سي في، CV) فيقول: «يا ترى، وبهذه الخلفية، من كان سيراهن على إمكانات تشانغ البحثية؟». بعد ذلك فاز جانغ من بين جوائز أخرى، بجائزة MacArthur المرموقة عام 2014، وتم تعيينه بروفسوراً كاملاً بعد فترة وجيزة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1089