تاريخ إسالة الغازات مثالاً لديالكتيك الحقيقة النسبية والمطلقة

تاريخ إسالة الغازات مثالاً لديالكتيك الحقيقة النسبية والمطلقة

كتب إنجلس عام 1885 أنّ «تقدّم العلوم الطبيعية النظرية» والثورة التي تشهدها تدفع «حتى أكثر التجريبيين تشدداً للإدراك المتزايد للطابع الديالكتيكي لعمليات الطبيعة». ومن الأمثلة العديدة على ذلك، ذكر: «التوصل إلى تحويل آخر الغازات «الحقيقية» إلى سوائل»، وإمكانية تحويل المادة إلى وضع «لا يمكن فيه التمييز بين الشكل السائل والشكل الغازي» بحيث فقدت حالات تجميع المادة «البقية الباقية من طبيعتها المطلقة السابقة». وبالفعل يشهد على ذلك تاريخ تحويل الغازات إلى سوائل منذ فاراداي وحتى إسالة الغاز الطبيعي، واستخدام الهيدروجين والأوكسجين السائلَين وقوداً لصواريخ الفضاء.

الغاز الحقيقي والغاز المثالي

في القرن 19، وبجهود فيزيائيين مثل بولتزمان وكلاوزيوس وماكسويل، ظهرت «النظرية الحركية الجزيئية للغازات» لتفسير المشاهدات التجريبية التي قادت لمفهوم وقانون «الغاز المثالي» مفترضةً عدة شروط له، أبرزها اثنان: إهمال حجم جزئياته (كأنه صفر)، وإهمال كلّ تجاذب أو تفاعل بين جزيئاته. فصِيغَ «قانون الغاز المثالي» كعلاقة تربط بين ضغطه P وحجمه V ودرجة حرارته T وكمّيته n وفق الصيغة PV = nRT حيث R ثابت التناسب.
ولكنّ جميع الغازات في الطبيعة «حقيقية» وسلوكها لا ينطبق على «الغاز المثالي»، بل يقترب منه ويتماشى مع قانونه. ومن هنا فائدته للتنبؤ بالسلوك التقريبي للغازات الحقيقية؛ عندما نقبل بإهمال حجم جزيئاتها بالنسبة للحجم الأكبر منها بكثير للحيّز الذي تنتشر فيه، وإهمال قوى التجاذب بين جزئياتها المتباعدة بمسافات كبيرة عن بعضها بالنسبة لحجم الجزيئات. وأدرك إنجلس أهمّية هذا القانون كأحد درجات الحقيقة النسبية، عندما تحدث في «ضدّ دوهرنغ»، الفصل العاشر بعنوان «الأخلاق والقانون. حقائق أبدية» عن: «قانونَ بُـوْيـل المعروف الذي يقضي بأنّ حجم الغاز في ظلّ الحرارة الثابتة يتناسب تناسباً عكسياً مع الضغط الذي يقع على الغاز»، ملاحظاً بأنّ العالِم رينيو «وجد هذا القانون غير سليم بالنسبة لبعض الحالات»، وأنّه لو اتبع رينيو فلسفةَ دوهرنغ لكان عليه أنْ يعلِن: «قانون بويل متغيِّر، وبالتالي فهو ليس بحقيقة أصيلة، وهذا يعني أنه بشكل عام ليس حقيقة، ويعني أنه خطأ». ولكن كما تابع إنجلس: «كان رينيو سيقعُ بذلك في خطأ أكبر بكثير من الخطأ الذي يتضمَّنُه قانونُ بويل؛ وفي كومة الأخطاء كانت ستضيعُ بذرةُ الحقيقة التي وجَدَها».

تجريد أقلّ: حقيقة نسبيّة أدقّ

يشتد انحراف الغازات الحقيقية عن قانون «الغاز المثالي» كلما أُخضِعَت لضغوطٍ عالية جداً أو للتبريد الشديد، وكلما اقتربت من شروط تحوّلها إلى سوائل. ولدراسة هذه الانحرافات الواقعية قام عالم الفيزياء الهولندي يوهانس فان دير فالس van der Waals، عام 1873 بصياغة «معادلة حالة» تنطبق على كلّ من الغازات والسوائل (فنال نوبل للفيزياء عام 1910)، وأكّد أنّ جزيئات الغاز بالواقع تتجاذب وحجمها غير صفريّ، وهي عوامل كانت فرضية «الغاز المثالي» قد تجرّدت عنها وأهملتها. فعدّل فانديرفالس صيغة القانون مُدخلاً ثابتَي تصحيح مستنتجَين من التجارب، ويختلفان من غاز لآخر، وهما: a لأخذ قوى التجاذب هذه بالاعتبار، وb لأخذ الحجم الفعلي للجزيئات بالاعتبار، فاتخذت صيغة القانون على يديه شكلاً أعقد ولكنْ أقلّ تجريداً من قانون الغاز المثالي، أيْ إنه صار يعبّر عن حقيقة نسبيّة أدقّ وأقرب إلى الواقع.

إسالة الغازات

لو اقتصر العِلم على مفهوم «الغاز المثالي» وقانونه، لما تنبَّأ بإمكانية تحويل الغازات الحقيقية إلى حالتها السائلة، ولكن تم اكتشاف خاصيّتين مهمّتين: «درجة الحرارة الحرجة» التي عندها أو أعلى منها لا يمكن لأيّ ضغط، مهما كان كبيراً، أن يسيّل الغاز، و«الضغط الحرج» الذي هو الحد الأدنى من الضغط المطلوب لتسييل الغاز عند درجة الحرارة الحرجة. هذه الحدود الحرجة هي عملياً «عَتَبات»، أو بلغة الفلسفة كما سمّاها هيغل، وعلى إثره إنجلس وماركس: «نقاط عُقَدِيّة» للتحوّل الديالكتيكي للتغيّرات الكمّية إلى نوعية وبالعكس، ارتباطاً بمفهوم «المقياس» كوحدةٍ للكمّ والكيف.
واستطاع العالم الإنكليزي مايكل فاراداي (1791–1867) في أوائل العقد الثاني من القرن 19، وبالضغط وحده، إسالة غازات لا تتطلّب برودة شديدة لإسالتها، كالكلور وكبريتيد الهيدروجين وبروميد الهيدروجين وCO2.
ثم جاء الإيرلندي توماس أندروس (1813–1885)، أواخر العقد السابع من القرن 19، فاستعمل ثاني أوكسيد الكربون ليثبت بأنّه فوق درجة حرارته الحرجة (31 مئوية) لا يمكن إسالته بالضغط لوحده. فأوحى له هذا المثال بفرضية أنّه إذا خفّضنا درجة الحرارة على نحوٍ كافٍ، تصبح إسالة أيّ غاز ممكنة، والتي تمّ لاحقاً البرهان على صحّتها بوساطة العالِم كايتيه.

الصناعة الرأسمالية وإسالة الغازات

كان الفيزيائي الفرنسي لويس بول كايتيه (1832–1913) ابناً لصاحب مصانع حديد، واهتم بدراسة خواص الغازات عموماً انطلاقاً من اهتمامه بدراسة «غاز الأفران العالية» المستعمل لصهر المعادن (وهذا الغاز ناتج ثانوي من إرجاع خام الحديد إلى حديدٍ معدني بواسطة فحم الكوك، ويتكون بشكلٍ رئيسي من N2 وCO2). وحتى ذلك الوقت كانت تبوء بالفشل جميع محاولات إسالة بعض الغازات (مثل الهيدروجين والنتروجين والأوكسجين) مما دفع لاعتقاد خاطئ بأنها «غازات أبديّة». ولكن بفضل تعرَّف كايتيه على عمل أندروس المتعلق بدرجة الحرارة الحرجة، أوحى له ذلك بالحاجة لمزيد من التبريد والضغط للنجاح بإسالة بقية الغازات، فاستعمل كايتيه تأثير جول-طومسون (وهو أنّ الغاز يَبرُد أثناء تمدُّدِهِ الناجم عن تَحرُّرِه من ضغطٍ عالٍ كان مطبَّقاً عليه) فنجح عام 1878 بإسالة هذه الغازات التي كانت تُعتبَر فيما سبق «أبديّة». وبشكل مشترك ومتزامن تقريباً مع كايتيه يُنسَب أيضاً إلى الفيزيائي السويسري راؤول-بيير بيكتيه (1846–1929) الفضلُ في أوّل إنتاجٍ للأوكسجين السائل عام 1877 (تحت 320 ضغطاً جوّياً و140 درجة تحت الصفر).
اطّلع عالم الكيمياء الروسي ديمتري مندلييف على تجارب هذين العالمين وتنبّأ بإمكانية إسالة الهيدروجين، حيث كتب: «نقطة الغليان المطلقة للهيدروجين وللغازات المشابهة له تقع أخفض بكثير من درجة الحرارة العادية، أيْ إنّ إسالة هذا الغاز غير ممكنة إلا بدرجات حرارة منخفضة جداً وضغوط عظيمة. وقد تمّ التحقق من هذه النتيجة عام 1879 بتجارب بيكيتيه وكاليتيه».
وهكذا أخذ يتناقص شيئاً فشيئاً عدد الغازات المعروفة التي لم يتم النجاح بإسالتها بعد، حتى لم يتبقَّ سوى الغازَين الأصعب إسالةً لأنهما يملكان أدنى درجات الحرارة الحرجة وهما: الهيدروجين (239.7 درجة مئوية تحت الصفر)، والهيليوم (سالب 267.7 مئوية). فأُسيلَ الهيدروجين عام 1898 على يد الإسكتلندي جيمس ديوار (1842–1923)، الذي حوّله إلى هيدروجين صلب أيضاً عام 1899. أمّا الهيليوم (الذي اكتُشِف على كوكبنا عام 1895 بعد أن كان يُعتقَد أنه خاصّ بالشمس) فقد نجحت إسالته عام 1908 على يد الهولندي هايكه كامرلينغ-أونز (1853–1926) الذي نال جائزة نوبل 1913.
وللغازات المسالة تطبيقات كثيرة، منها إنتاج الغاز الطبيعي المسال (بالتبريد إلى سالب 162 درجة مئوية تقريباً تحت الضغط الجوي النظامي)، والآزوت لتطبيقات بيولوجية وطبية وجراحية وغيرها (يكون سائلاً بين الدرجتين 196 و210 تحت الصفر). كما يستخدم اليوم الهيدروجين والأوكسجين السائلَين وقوداً لبعض محركات دفع الصواريخ الفضائية.

المصادر:
1– فريدريك إنجلس، «ضدّ دوهرنغ» (مقدّمة الطبعة الثانية، والفصل العاشر).
2– مندلييف «أسس الكيمياء»، ترجمة جورج كامينسكي الإنكليزية للطبعة الروسية الخامسة (لونغمانس وغرين، لندن ونيويورك 1891، ص131–136).
3– كتاب الكيمياء العامة بتحرير زومدال وديكوستي (2019).
4– قاموس كمبريدج للعلماء (2002).
5– موقع «الموسوعة» لجامعتَي أوكسفورد وكولومبيا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1098
آخر تعديل على الإثنين, 28 تشرين2/نوفمبر 2022 13:12