كيف يبطَّئ القمرُ دورانَ الأرض؟ من كانط وإنجلس إلى يومنا

كيف يبطَّئ القمرُ دورانَ الأرض؟ من كانط وإنجلس إلى يومنا

اهتمّ فريدريك إنجلس بفرضيتين شهيرتين لعالِم الطبيعة والفيلسوف إيمانويل كانط (الفرضية السديميّة، و«الاحتكاك المدّي» tidal friction)، نظراً لأهميتهما في زمانه بتعزيز استنتاج النظرة الديالكتيكية لتطوّر الطبيعة، على عكس النظرة الميتافيزيقية حول «استقرار أبدي» لمنظوماتها. فيما يلي نتناول أبرز ما كتبه كانط وإنجلس عن الاحتكاك المدّي الذي يبطِّئ دوران الأرض حول مركزها، مع المقارنة بالمعلومات الحديثة اليوم.

الاحتكاك المدّي فـي المراجع الحديثة

تُعرّف ظاهرة المدّ والجَزْر في المحيطات والبحار بأنها الاختلاف الدوري اليومي بمستوى ارتفاع المياه، بسبب التبدلات الدورية للجاذبية الممارسة على الأرض من القمر بشكل رئيسيّ، ومن الشمس بدرجة أقلّ. ويشدّ التأثير المدّي للقمر أيضاً الكتلةَ الصلبة للأرض ولو بسعة أقلّ بكثير (حوالي 30 سنتيمتراً) لا تلاحَظ سوى بأجهزة حسّاسة. (موسوعة علم الفلك والفيزياء الفلكية، 2005، الناشر: Nature).
ويحدث «الاحتكاك المدّي» بين المدّ المائي وقيعان البحار والمحيطات، وبين أجزاء القشرة الأرضية الصلبة بعضها ببعض أيضاً. وتتحول طاقته الميكانيكية إلى حرارة تُحدِثُ تغيّرات بطيئة جداً بدوران الأرض والقمر على مدى أحقاب زمنية طويلة. فالطاقة المدّية المتبدِّدة: تبطِّئُ معدّل دوران الأرض حول محورها، وتزيد زاوية ميلان محورها على مستوي مدارها حول الشمس، وتؤثّر على مدار القمر: فتزيد بعده عن الأرض، وتزيد لا تمركزيّته وتنقص زاوية ميلانه. وبالآلية نفسها تتغيّر ببطء مدارات ومعدّلات دوران العديد من الكواكب وأقمارها التابعة، وهذا ما يسمّى بـ«التطوّر التدريجي المدّي» tidal evolution. وتتأثر منظومة «الأرض-القمر»؛ فيتطاول يومنا الأرضي بمعدل صغير جداً (0.0016 ثانية كلّ قرن)، وكذلك تؤثّر الأرضُ على القمر بالآليات نفسها فتُبعِدُهُ عنها 3 إلى 4 سنتيمترات سنويّاً. تأثير المد الناجم عن جاذبية الأرض على سطح القمر، منذ تشكّلت منظومتهما، أوصلَ دورانَ القمر إلى نهاية تطوّره المدّي بحيث يتزامن الآن معدّل دورانه حول نفسه مع المعدّل الوسطي لدورانه حول الأرض، ولذلك نراه يدير لنا الوجه نفسه دائماً. وبحسب «الموسوعة البريطانية»: «بعد ملايين السنين من الآن، قد تجعل هذه التأثيرات كوكبَ الأرض يدير الوجهَ نفسَه نحو القمر الذي سيكون قد صار أبعد عنّا، وستدور هي حول نفسها في يومٍ سيكون أطول من يومنا الحالي بـ 50 مرة، ومساوياً لطول الشهر في ذلك الزمان». لكن يُرجَّحُ ألّا يتسنّى لمنظومة الأرض- القمر الوصولُ إلى نهاية كهذه لأنّ المنظومة الشمسية كلها سينتهي عمرها الطبيعي وتندثر قبل ذلك (بعد حوالي 5 مليارات سنة من الآن).

الاحتكاك المدّي عند كانط

أعلنت الأكاديمية الملكية البروسية للعلوم في برلين عام 1752 مسابقة للفوز بجائزة لمن يجيب عن السؤال التالي: «هل سيَنقُص معدَّلُ دوران الأرض حول محورها ​​بمرور الزمن، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف لنا أنْ نعرف؟». وأعطت مهلة سنتين لتقديم الإجابات ثم مدّدتها إلى أربع. وخلال صيف 1754 كتب كانط إجابةً في 5 صفحات، ولكنه لم يقدّمها إلى المسابقة، بل نشرها على جزأين في 8 و15 يونيو/حزيران 1754 في صحيفة محلّية أقل شهرة موجّهة لعموم المواطنين هي «أسبوعية كونينغسبرغ للرسائل الاستفهامية والإعلانية». وفيها استنتج بشكل صائب أنّ معدّل دوران الأرض حول محورها يتناقص مع مرور الزمن، مقترحاً «الاحتكاك المدّي» سبباً لذلك. المفارقة أنّ الأكاديمية البروسية منحت الجائزة آنذاك للرياضي والفلكي الإيطالي باولو فريسي، الذي قدّم إجابة خاطئة بأنّ «معدّل دوران الأرض لن ينقص ​​بمرور الوقت».
في نصّ فرضيّته، انطلق كانط من أنّ قوّة الجاذبية: «تسهمُ أيضاً بلا شكّ بقِسطٍ ما في إنقاص دوران الأرض حول نفسها، ولا بدّ أن تظهر نتيجة ذلك بالضرورة على مدى فترات طويلة... فإذا كانت الأرض تقترب بخطوات مستمرة من أنْ تتوقّف عن دورانها، فإنّ هذا التغيُّر سيكتمل عندما يصل سطحُها إلى السكون بالنسبة للقمر، أيْ عندما يصير دوران الأرض حول محورها يستغرق الفترة نفسها التي يستغرقها القمر في دورانه حولها، فتُيمِّمُ الأرضُ إذْ ذاك وجهَها نفسَه دوماً شَطْـرَ القمر. ولو كانت الأرض مؤلّفةً بأكملها من سائلٍ حتى المركز، لأنقَصَ جذبُ القمر دورانَـها إلى هذا المتبقّي المحدود في غضون زمنٍ قصير جداً. وهذا يوضِّحُ لنا أيضاً لماذا يديرُ القمر دوماً الجانبَ نفسَه نحو الأرض أثناء دورانه حولَها».
وفي سياق تعليق كانط على تراكم هذه التغيرات الضئيلة المبطّئة لدوران الأرض، يظهر اهتمامه الضمنيّ بالتحوّل الديالكتيكي للكمّ إلى كيف، ولو بتعبيرات أخرى، حيث يكتب: «من غير اللائق أنْ يتحيّز الفيلسوف لإهمال تأثيرٍ ضئيل من شأنه بتراكمه المستمر، من كلّ بدّ، أنْ يستنفد في نهاية المطاف حتى أكبر كمّية من الكمّيات».

إنجلس عن الاحتكاك المدّي

مرّ إنجلس على فرضيّتَي كانط في كتابه «ضدّ دوهرنغ» وكذلك فـي مخطوطه «ديالكتيك الطبيعة». وفي هذا الأخير نوّه (بملحوظة تعود للعام 1880 أو1881) إلى أنّ «كانط كان أوّل من طرح، عام 1754، وجهة نظر مفادها أنّ دوران الأرض يتباطأ بسبب الاحتكاك المدّي وأنّ هذا التأثير سيصل إلى خواتيمه»؛ لتدير الأرض الجانب نفسَه من سطحها دائماً نحو القمر. ثم يكتب إنجلس أنّ كانط «رأى هذا التباطؤ عائداً فقط إلى احتكاك المد والجزر، الناتج عن وجود كتل سائلة على الأرض» ليتبيّن لاحقاً أنّ التأثير لا يقتصر على السوائل إذ إنّ «المفهوم الأكثر عمومية هو الذي طوّره طومسون Thomson وتايت Tait» وكما لخّصه إنجلس: «جاذبية القمر والشمس لا تؤثر على سوائل الجسم الأرضي أو سطحه فحسب، بل وأيضاً على كتلة الأرض عموماً بشكل يعيق دورانها حول نفسها». وكتب إنجلس صياغته الخاصة لما اعتبرها «النظرية التي نشأت كتعميم لنظرية كانط عن الاحتكاك المدّي» وقانونها العام الذي يحكم أيّ كوكبٍ وتابعه (قمره):
«إذا كانت فترة دوران الجسم المركزي (النسبي) حول نفسه أطول من فترة دوران قمره حوله، فسيتم تقصير الفترة الأولى تدريجياً. أما إذا كانت أقصر كما هو الحال بالنسبة للأرض فسيتم تمديدها. ولكن لا في الحالة الأولى تُخلَقُ الطاقةُ الحركية من العدم، ولا هي فـي الحالة الثانية تفنى. في الحالة الأولى، سيقترب القمر التابع من الجسم المركزي ويقصّر فترة دورته حوله، وفي الحالة الثانية سيزداد بعداً عنه ويكتسب فترة دوران أطول. في الحالة الأولى، يَفقدُ القمرُ التابعُ عبر الاقتراب من الجسم المركزي القدرَ نفسَه بالضبط من الطاقة الكامنة التي يكتسبُها الجسمُ المركزي بشكل طاقةٍ حركيةٍ من الدوران المتسارِع حول نفسه. وفي الحالة الثانية، يكتسب القمر التابع، عبر زيادة المسافة، كميةَ الطاقة الكامنة نفسها بالضبط التي يفقدها الجسم المركزي من طاقة دورانه الحركية حول نفسه. ويظلّ المقدار الإجمالي للطاقة الديناميكية، الكامنة والحركية، الموجودة في منظومة الأرض والقمر كما هي؛ المنظومة مَصونةٌ تماماً».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1097