تشديد استغلال العمّال في عصر «البيانات الضخمة»
تيم كريستين تيم كريستين

تشديد استغلال العمّال في عصر «البيانات الضخمة»

«يمكن كتابة تاريخ كامل عن تلك الاختراعات منذ عام 1830 التي استُحدِثَت على وجه الحصر كأسلحةٍ في يد الرأسمال ضدّ انتفاضات العمّال» - هكذا كتب ماركس في أحد فصول المجلّد الأول من «رأس المال» (1867). في النصّ التالي يبيّن الباحث تيم كريستين «مشكلة الإرهاق في رأسمالية المنصّات» اليوم، لافتاً إلى احتفاظ الرأسمالية بجوهرها الاستغلالي، بل وتعميقه، في عصر الإنترنت وشركات «البيانات الضخمة» العملاقة كأمازون وغوغل وفيسبوك وأوبر وغيرها. وقد ورد النص ضمن كتاب مشترك مع عدة مؤلفين بعنوان «البيانات الضخمة - وسيطة جديدة؟» الصادر عام 2021 ضمن سلسلة دراسات روتليدج (لندن) في العلوم والتكنولوجيا والمجتمع.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

الاقتباس المذكور من ماركس أعلاه، ورد في المجلد الأول من «رأس المال»، قسم «إنتاج القيمة الزائدة النسبية»، فصل «الماكينات والصناعة الكبيرة»، فقرة «التأثيرات المباشرة للإنتاج الآلي على العمّال»، العنوان الفرعي «الصراع بين العامل والماكينة».
ويوضّح ماركس في الفصل نفسه ثلاث طرق ألحقت بها الرأسمالية الضَّررَ بالعمّال باستخدام الآلات الصناعية:
أولاً، حوّلت النساء والأطفال إلى منافسين مباشرين على أعمال غير ماهرة تتناقص باطّراد. فطريقة استخدام الآلات تركت جماهير «لا لزوم لها» بالنسبة للرأسمال، جاعلةً في الوقت نفسه بقيّة الوظائف أسهل تنفيذاً، مما سهّل الاستعاضة عن العمّال المقاومين بعمّال مِطواعين. ثانياً، إطالة يوم العمل، لأنّ الرأسمالية عليها تشغيل الآلات لأكثر ما يمكن لتحقيق استثمار مربح. ثالثاً، قام نظام المعمل أيضاً بتشديد يوم العمل، عبر الآلات التي سرّعت وتيرة العمل، وتمّ إجبار العمّال على بذل جهود أشدّ للّحاق بها.

عصر إنتاج الخدمة ومستهلكها

في عصرنا اليوم، حيث ازدادت حصّة العمل الذهني، فإنّ الصناعة التقليدية تمّ نقلها بشكلٍ أساسيّ إلى البلدان غير الغربية. وازدادت أهمّية قطاع الخدمات، والذي كانت إحدى أفضليّاته (بالنسبة للرأسماليين) هو تمكين أسلوب الإنتاج من التمركز حول «الاستبداد الناعم للتفاعليّة». فبدلاً من البدء بإنتاج البضائع ومن ثمّ بيعها، تقوم شركات الخدمات اليوم بتحريض المستهلكين أولاً على التفاعل مع مزوِّد الخدمة، ومن ثم تصميم المنتوجات لتتلاءم مع رغبات المستهلك الفرد. وعبر معايرة خدماتهم وتوقّعات زبائنهم، يقوم مزوّدو الخدمة بإنتاج كلٍّ من البضائع ومستهلكيها. وهكذا ضخّمت التكنولوجيا الرقمية على نحوٍ مهول إمكانات مشاريع «الخلق المشترَك» للمزوِّد والمستهلك. ومن الابتكارات الحديثة في هذا المجال «شركات المنصّات» - مثل غوغل وأمازون وفيسبوك وأوبر- التي تخلق فضاءً رقمياً يمكّن الأفراد من تبادل البضائع بسهولة أكبر. ففي حين يعتَبر بناء سوق للكتب على الأرض يحوي جميع كتب العالَم أمراً شبه مستحيل، تقدّم شركة أمازون موقعاً إلكترونياً يستطيع فيه الناشرون عرض كتبهم مباشرةً للجمهور العالَمي. إنّ اكتشاف رغباتنا الدفينة والأكثر حميمية عملية باهظة التكاليف على مروّجي الإعلانات التجارية، ولكنّ شركة غوغل تقوم ببيع هؤلاء المروّجين معلوماتٍ حول ما نقوم بالبحث عنه على محرّكات البحث، لمساعدة الشركات في خلق إعلانات تجارية تستهدفنا فرداً فرداً. إنّ هذه الشركات تجني الأرباح عن طريق استخراج وتحليل البيانات السلوكية المتولّدة من المنصّات الرقمية، والتي يمكن إمّا بيعها إلى طرف ثالث أو استخدامها لأمْثَلَة (optimisation) خدمات المنصّة نفسها.

العمل تحت عصا «الشرطيّ الإلكترونيّ»

ولكن مهما بدا عصر البيانات الضخمة اليوم (البيغ داتا Big Data) مختلفاً كثيراً عن عصر الصناعة الآلية القديم، فإنّ التأثيرات على العمّال تتشابه على نحو مدهش.
أولاً- تماماً كما كان يتعرّض رجال البروليتاريا في العصر الصناعي لمنافسة من عمالة النساء والأطفال لكونها أرخص ومطواعة أكثر، وبالتالي الإساءة إلى ظروف حياة الطبقة العاملة بمجملها، فإنّ اقتصاد المنصّات اليوم يقوّض حقوق العمّال بشكل مستمرّ عبر تقليص الوظائف الشاغرة إلى أدنى الحدود وتعظيم المنافسة إلى أقصاها. ويسمح تحليل الـ«بيغ داتا» لأرباب العمل بتحديد دقيق لعدد العمال الذين تحتاجهم الشركة في أية ساعة من اليوم. فشركة أمازون مثلاً، تعالج بيانات طلبات الشحن لتحديد الحدّ الأدنى من عدد العمال في الطاقم المطلوب لأداء أية مهمّة بعينها بدقّة كبيرة، شاطبةً العمّال «الفائضين» من جدول الرواتب. ليس هذا فحسب، بل وتستَخدَم التكنولوجيا الرقمية لانتقاء النوعيّة المطلوبة من العمّال وتوسيعها، كما في «السوق الرقمي» المسمّى آلية أمازون الميكانيكية (AMT) التي تسمح للشركات بتوظيف عمّالٍ من شتى أنحاء العالَم لتنفيذ أعمال رقمية صغيرة وسهلة مقابل أجور بخسة لا تتجاوز بضعة سنتات لكلّ مهمّة، مثل التعرّف على صور الـمَحارف (captchas وهي أداة ضرورية للمنصات لأغراض منها الأمن السيبراني، كتمييز البشر عن الروبوتات وفيروسات القرصنة على الشبكة). وفي هذه الأعمال تعتمد المنصّات بشكل كثيف جداً على عمالة آسيوية رخيصة ضمن ما يسمى «فريلانس» إضافة إلى تشغيل بعض الأمريكيين العاطلين عن العمل. والنتيجة واضحة: تأمين عمل سيّئ للعمّال المستَبعَدين من سوق العمل الغربيّة لنقص كفاءتهم، وفي الوقت نفسه تقليص فرص الحصول على وظيفة مستقرّة، كما تؤدي عولَمةُ المعروض من قوة العمل إلى إضعاف الموقع التفاوضي للعمّال، بمن فيهم الغربيّون، وانحدار مستمرّ بالوظائف والأجور والدعم الاجتماعي.
ثانياً- تستخدم الرأسمالية تكنولوجيا المنصّات من أجل تطويل يوم العمل. وذلك عبر إبقاء العمّال منشغلين على المنصّات لفترات أطول ممّا كانوا ينوون أو يظنّون. فشركة «أوبر» مثلاً (Uber لسيّارات الأجرة)، تستعمل برمجية تسمى «وسيلة تعديل السلوك» لتحفيز السائقين على أنْ «يختاروا» بأنفسهم تطويل يوم عملهم «طواعيةً». وتتمّ الخدعة عبر إرسال التنبيهات الإلكترونية أو «الإخطارات الدَّفعية push notifications» لتشجيع السائقين على تحقيق أهداف عشوائية يومية، لمجرّد تحريضهم على العمل أكثر، فهذه الأهداف لا يكون لها مغزىً أو ضرورة داخلية سوى ذلك. وفي هذه العملية تستغلّ الشركة حقيقة أنّ التلويح بهدفٍ ما غالباً ما يغري بمحاولة الوصول إليه. وعلى مستوى أكثر عمقاً، يتم أيضاً تطويل يوم العمل عبر تضمين نشاطات أكثر في مجال العمل وخلق القيمة؛ نشاطات كانت تعتبر فيما مضى للتسلية أو لوقت الفراغ وصار يزجّ بها اليوم في دورة التراكم الرأسمالي. على سبيل المثال، بدلاً من أن يقوم شخص بالاستعانة بصديقه لإيصاله بسيارته الخاصة إلى المطار، بات يلجأ إلى شركة التاكسي «بدلاً من إزعاج الصديق».
ثالثاً- لا يتوقف الأمر عند إطالة العمل، بل ويتمّ تشديده أيضاً. فشركات المنصّات تزوّد خوارزميّاتها بمنظومات رقابة على العمّال لتضخيم إنتاجية العمل، تماماً كما في نموذج سجون «العين الشاملة لبنثام Bentham’s panopticon» الذي صمّمه المفكّر الإنكليزي جيريمي بنثام عام 1785 (والذي ينصّب مراقباً واحداً على جميع السجناء دون أن يستطيعوا معرفة ما إذا كانوا مراقَبين أم لا)، كذلك لا يعرف عمّال شركات المنصات اليوم كيف ومتى يتمّ تعقّب بياناتهم، فيجعلهم هذا التوجّس يزرعون شرطيّ العمل في رؤوسهم. وكما قال سيكارديلي عام 2018 «لم يعد ربّ العمل بلحمه وشحمه موجوداً، لأنّ الخوارزمية صارت هي ربّ العمل الجديد». حتّى أنّ شركة أوبر تقوم بتعقّب كيف يضغط سائقوها على دوّاسات الفرامل والسرعة، وتقوم تلقائياً بإنشاء تقرير «القيادة الآمنة» الخاص بكل واحد من سائقيها، فيقوم التطبيق الإلكتروني بإرسال رسائل إلى السائق من قبيل «لقد اكتشفنا أنّك ضغطت على المكابح بقسوة!» أو «لقد قمت بعمل رائع!». وبذلك يشعر السائقون بأنهم عرضة للمراقبة الدائمة ويتوجّسون بأنّ الشركة ربّما تجمع عنهم معلومات أكثر.
وتُبقي الشركات تفاصيل عمل خوارزميّاتها سرّاً محظوراً على العمّال، لدفعهم إلى دوّامة مرهقة من السعي إلى تحسين عملهم، وهكذا يستخدم رأس المال أحدث التكنولوجيّات لا لتحسين حياة العمّال بل لإخضاعهم والتحكّم بهم جسدياً وذهنياً ونفسياً واجتماعياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1099