جفاف وحرائق العالَم بمساهمة بشرية وآثار كثيرة

جفاف وحرائق العالَم بمساهمة بشرية وآثار كثيرة

بعد موجات الحرّ والجفاف الواسعة خلال السنوات الماضية، تشهد مناطق عدة حول العالم حرائق غابات مدمرة لا سابق لها. وتميّز هذا الموسم بتمدد الحرائق وقوَّتها، إذ لا يكاد مكان توجد فيه غابات على وجه الأرض إلا وطالته، من شرق البحر المتوسط إلى غربه مروراً بسورية ولبنان وفلسطين وتركيا وإيران والصين وأوروبا والأمريكيتين وغيره. وقال الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء 23 آب/أغسطس الجاري، إن أوروبا تواجه أسوأ موجة جفاف منذ 500 عام على الأقل، وإن ثلثي القارة أصبحت في حالة تأهب أو تواجه تحذيرات بشأن الجفاف، مع انحسار في حركة الشحن الداخلي وهبوط إنتاج الكهرباء وتراجع إنتاجية بعض المحاصيل.

إعداد وتلخيص: قاسيون

قال تقرير شهر آب (أغسطس)، الصادر عن المرصد الأوروبي للجفاف، الذي تُشرف عليه المفوضية الأوروبية، إن 47% من مساحة القارة تواجه تحذيرات، مع نقص واضح في رطوبة التربة، و17% منها في وضع التأهب، وهو ما يعني تأثُّر الغطاء النباتي للقارة. ونصّ التقرير على أنّ «الجفاف الشديد، الذي يؤثر على الكثير من مناطق أوروبا منذ بداية العام، اتسعت مساحته وتفاقم اعتباراً من أوائل آب (أغسطس)»، مضيفاً أن منطقة غرب أوروبا والبحر المتوسط من المرجَّح أن تشهد ظروفاً مناخية أكثر دفئاً وجفافاً من المعتاد حتى شهر تشرين الثاني (نوفمبر).

أضرار الجفاف على المحاصيل والطاقة والنقل

تأثرت المحاصيل الصيفية، حيث يتوقع أن يكون محصول الذرة في عام 2022 أقل بنسبة 16% عن متوسط السنوات الخمس السابقة، ومحصول فول الصويا أقل بنسبة 15% وعباد الشمس بنسبة 12%.
لحق الضرر بتوليد الطاقة الكهرومائية، وزاد التأثير على منتجي الطاقة الآخرين جراء نقص المياه اللازمة لتغذية أنظمة التبريد، بما فيها المفاعلات النووية التي تستعمل أغلبها الماء (الخفيف العادي أو الثقيل) للتبريد.
وعرقل انخفاض مستويات المياه حركة الشحن الداخلي، كما هو الحال على طول نهر الراين، حيث جرى تخفيض أحمال الشحن الأمر الذي أثّر على نقل الفحم والنفط.

أرقام عالمية عن الحرائق

خلال السنوات بين 2002 و2016، طالت الحرائق ما يقارب 423 مليون هكتار من سطح الأرض سنوياً، أي ما يعادل مساحة الهند ومصر مجتمعتين، وثلثا هذه الحرائق كانت في القارة الإفريقية. وخلال الفترة ذاتها حدث أكثر من 13 مليون حريق فردي على مستوى العالم، استمر كل منها ما بين 4 إلى 5 أيام. وكان كل حريق يدمر 440 هكتاراً كمعدّل عالمي، في حين يصل المعدل في أستراليا إلى 1790 هكتاراً لكل حريق.

النشاط البشري المفاقم للحرائق

يرجّح برنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، في تقريره الأخير عن القضايا الناشئة ذات الاهتمام البيئي، أن تؤدي الظروف المناخية إلى حرائق غابات أكثر خطورة بفعل تزايد تراكيز غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي المسببة لتغيُّر المناخ، وما يصاحب ذلك من تصاعد لعوامل الخطر.
وتخلص ورقة بحثية، نُشرت مؤخراً في دورية «ريفيو جيوفيزيكس»، إلى أن بعض مناطق الغابات الواقعة على خطوط العرض العليا شهدت زيادةً في حرائق الغابات بنسبة 50 في المئة أو أكثر في العقدين الأولين من هذا القرن. فيما يتوقع تقرير صادر عن (يونيب) زيادةً عالميةً في «الحرائق الشديدة» تصل إلى 14 في المائة بحلول 2030 و50% مع نهاية القرن.
وفي المقابل، تُفاقم حرائق البراري مشكلة تغيُّر المناخ. وتشير الدراسات إلى أن فقدان غابات الأمازون المطيرة وذوبان الجليد الدائم في القطب الشمالي عاملان محتملان في تسريع تغيُّر المناخ.

اختلال التوازن الطبيعي بين النار والنبات

ومن مسببات حرائق الغابات أيضاً تغيُّر استخدام الأراضي ونهج إدارة الحرائق الذي لا يقدّر العلاقة الوثيقة التي تطورت على مدى آلاف السنين بين الغطاء النباتي والنيران. وتؤسس التفاعلات بين الغطاء النباتي والمناخ على مدى فترات طويلة نمطاً معيّناً لتكرار حرائق الغابات في نظام بيئي محدد، ويُعرف هذا النمط بنظام الحرائق الطبيعي، الذي يُعدّ ضرورياً لعمل العديد من النظم البيئية. لكن الحرائق الشديدة والمتكررة التي يشهدها العالم اليوم تتجاوز نظام التوازن الطبيعي متسببة بالإخلال به.
أشجار الصنوبر، وأنواع شائعة أخرى في الغابات الشمالية وغابات حوض المتوسط، تخزن بذورها في أكواز لسنوات حتى يتسبب حدوث حريق في إطلاقها. وتحفّز حرائق الغابات الأزهار في النباتات المحلية المنتجة للأبصال مثل أنواع الأوركيد والزنابق، وفي الأعشاب المعمّرة. ويمكن أن يؤدي الدخان والخشب المتفحّم إلى إنبات البذور في العديد من الأنواع في أراضي الشجيرات المعرّضة للحرائق.
تُعتبر الغابات الاستوائية المطيرة حسّاسةً للحرائق، ويندر أن تندلع وتنتشر فيها النيران بسبب غطائها النباتي الرطب، ومع ذلك جعلت الأنشطة البشرية حرائق الغابات شائعةً في مناطق من غير المتوقع أن تحصل فيها. في غابات الأمازون المطيرة يتم قطع الغطاء النباتي الأصلي وانتقاء أنواع الأشجار الأكثر قيمة وإزالتها، وتُترك البقايا لتجف حتى يتم إشعالها عمداً لتحضير مساحات تصلح للزارعة أو للرعي. وفي المناطق الاستوائية، بشكل عام، تؤدي تجزئة الغابات وقضم مناطق السافانا والأراضي العشبية إلى خلق الظروف المواتية لحرائق الغابات وخسارة النظم البيئية.

تأثير التوسع الحضري

يسهم التوسع الحضري وتمدّد المدن والنشاط البشري إلى حدٍّ بعيد في إدخال الأنواع الغازية التي يمكن أن تغيّر أنظمة الحريق، عن طريق تغيير بنية الغطاء النباتي داخل النظام البيئي. وتحتوي العديد من الأعشاب الغازية على كتلة حيوية ورطوبة منخفضة، مما يخلق ظروفاً مواتيةً لحرائق الغابات. وقد أدى غزو بعض الأعشاب غير الأصلية في الولايات المتحدة إلى زيادة فرص حصول الحرائق بنسبة 230 في المئة وزيادة تكرارها بنسبة 150 في المئة.

آثار حرائق الغابات ومواجهتها

تنبعث من حرائق الغابات الكبيرة كميات هائلة من الملوثات الجوية، مثل هباب الفحم والجسيمات المعلقة وغازات الاحتباس الحراري. ويمكن للرياح نقل هذه الملوثات إلى مسافات طويلة، حيث تترسب فوق المواقع الطبيعية البعيدة، بما في ذلك الأنهار الجليدية. ويقلل النقل الجوي وترسب هباب الفحم من بياض السطح، مما يزيد ذوبان الجليد والثلوج. وهناك دراسات تخلص إلى مساهمة هباب الفحم الناتج عن حرائق حوض الأمازون في زيادة ذوبان الأنهار الجليدية على جبال الأنديز.
ويُلاحظ في أعقاب حرائق الغابات الكبيرة ارتفاع مستويات الرواسب في الأنهار، وتغيُّر درجات حرارة المياه وعكارتها، وينعكس ذلك على وفرة الأسماك. وتؤدي التعرية بعد حرائق الغابات إلى جلب مجموعة من العناصر الغذائية والملوثات إلى المسطحات المائية، فتؤثر على جودة المياه وسلامة الأنواع الحية. ويمكن أن تسبب المغذيات، مثل النيتروجين والفوسفور، في المسطحات المائية إلى ازدهار الطحالب وتقليل مستويات الأوكسيجين المذاب، مما يشكل خطراً على الكائنات المائية.
كما تؤدي التعرية الناتجة عن حرائق الغابات في بعض الحالات إلى انهيار المنحدرات وحصول انزلاقات أرضية. وتطلق حرائق الغابات الواسعة والكبيرة كميات ضخمة من الهباء الجوي، بما في ذلك المعادن النزرة الحيوية الأساسية مثل الحديد. وقد تسبب الانتقال الجوي للهباء الغني بالحديد من حرائق الغابات الأسترالية في صيف 2019 و2020 في تكاثر الطحالب على نطاق واسع في جنوب المحيط الهادئ على مدى 4 أشهر.

ضرورة زيادة ميزانية مكافحة الحرائق

تأتي أهمية زيادة الموازنات المخصصة للتكيُّف مع آثار تغيُّر المناخ لمواجهة مضاعفاته، بدلاً من أن يذهب معظمها لتدابير الحدّ من الانبعاثات. وفي طليعة المهمات اعتماد إدارة سليمة للغابات، وتدريب القوى البشرية المؤهلة للتعامل مع الحرائق وتزويدها بالتجهيزات اللازمة. والمفارقة أن بعض الدول الأكثر تعرُّضاً للحرائق هي الأقل استعداداً للتعامل معها.

المصدر:
المجلة العربية للبيئة والتنمية، العدد 293 (آب/أغسطس 2022)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1085