«فقر الطاقة» في بريطانيا: آلاف الوفيات وأضرار بنمو ملايين الأطفال

«فقر الطاقة» في بريطانيا: آلاف الوفيات وأضرار بنمو ملايين الأطفال

أصدر «معهد العدالة الصحية» في بريطانيا مراجعة جديدة في الثاني من أيلول/سبتمبر الجاري، تحدث فيها عن مؤشرات خطيرة لـ«أزمة إنسانية» شديدة بسبب «فقر الطاقة»، حيث تتوقع مستويات «وبائية» من فقر الوقود وأضراراً على نصف الأسر في المملكة المتحدة، مع فقدان الآلاف من الأرواح وإضعاف نمو ملايين الأطفال. وكانت المراجعة محقّة بوصفها الوضع بـ«المهزلة المطلقة» قائلةً إنّه «في بلد غني مثل المملكة المتحدة، تشكّل فكرة كون أكثر من نصف الأسر يجب أن تواجه فقر الوقود حكماً محزناً لإدارة شؤوننا. إنها مهزلة مطلقة أن تجني شركات الطاقة مليارات الجنيهات من الأرباح وتخفيضات ضريبية، بينما يواجه نصف السكّان حياة أقصر ومصاعب شديدة بلا ذنب من جانبهم».

حملت المراجعة عنوان «الآلاف سيموتون والملايين من الأطفال سيعانون من (أزمة إنسانية) ناجمة عن فقر الوقود». وصدرت تحت إشراف كل من البروفيسور السير مايكل مارموت، مدير معهد العدالة الصحية ULC، والبروفيسور إيان سينها، استشاري طب الأطفال التنفسي في مستشفى «ألدر هاي» للأطفال في ليفربول. وتتوقع أضراراً صحية واجتماعية وتعليمية كبيرة لجيل جديد من الأطفال إذا حدث المتوقع، ألا وهو وقوع 55% من الأسر في المملكة المتحدة (حوالي 15 مليون شخص) بحالة في «فقر الوقود» بحلول كانون الثاني/يناير 2023 إذا لم تحدث «تدخّلات فعالة» لإنقاذهم.

تعريف «فقر الوقود»

بحسب المعهد، تعاني الأسرة من فقر الوقود إذا كانت ذات دخل منخفض وتواجه تكاليف عالية للحفاظ على التدفئة الكافية وخدمات الطاقة الأساسية الأخرى. ويعود سبب فقر الوقود إلى ثلاثة عوامل رئيسية: انخفاض دخل الأسرة، وارتفاع تكلفة الطاقة، ومدى الكفاءة باستخدام الطاقة في المنزل.
تربط المراجعة «العواقب الخطيرة» للعيش في منزل بارد بصحة الطفل ومتوسط ​​العمر المتوقع للأطفال في المستقبل. حيث قال مارموت: «المنازل الدافئة والطعام المغذي والعمل المستقر هي لبنات أساسية للصحة. بالإضافة إلى تأثير البيوت الباردة على الأمراض العقلية والجسدية، فإن العيش على دخل منخفض يسبب الكثير من الضرر. إذا كنا قلقين باستمرار بشأن تلبية احتياجاتنا، فإن ذلك يضع ضغطاً على أجسامنا، مما يؤدي إلى زيادة التوتر، مع تأثيرات على القلب والأوعية الدموية واضطراب في جهاز المناعة. سيعني هذا النوع من البيئة المعيشية أن آلاف الأشخاص سيموتون في وقت أبكر مما ينبغي، وبالإضافة إلى أذية الرئة لدى الأطفال، يمكن أن يؤثر الإجهاد السام بشكل دائم على نمو أدمغتهم».
ولاحظ التقرير بأنه «في بلد غني مثل المملكة المتحدة، فإن فكرة كون أكثر من نصف الأسر يجب أن تواجه فقر الوقود هو حكم محزن لإدارة شؤوننا. إنها مهزلة مطلقة أنّ شركات الطاقة تجني مليارات الجنيهات من الأرباح وتخفيضات ضريبية، بينما يواجه نصف السكان حياة أقصر ومصاعب شديدة بلا ذنب من جانبهم».
وأضاف: «على الحكومة أن تتصرف الآن. من الواضح أننا نواجه أزمة إنسانية كبيرة حيث فقد الآلاف حياتهم وتضرر نمو ملايين الأطفال، مما أدى إلى عدم المساواة التي ستستمر مدى الحياة».
ويوضح البروفيسور إيان سينها: «هناك فرصة سانحة في مرحلة الطفولة لتحقيق النضج التنفسي الأمثل. يتأثر ذلك بالمشكلات المرتبطة بالمساكن الباردة أو دون المستوى أو المكتظة مثل الفيروسات والغبار، والعفن والتلوث. عندما نضيف عوامل مثل التقشف بالطعام من أجل دفع فواتير الغاز، وتأثير الصحة العقلية والتعليمية للمنازل الباردة، فإن الصورة لا تزال أكثر كآبة».
ويضيف: «دون اتخاذ إجراءات سريعة وذات مغزى، فإن ما يقلقني هو أن السكن البارد سيكون له عواقب وخيمة على العديد من الأطفال الآن، وعلى مدى حياتهم. إن التفاوتات الصحية مدى الحياة، التي وصفها السير مايكل بشكل متكرر وبليغ، تتجذر في الطفولة، ولا شك في أن معيار منزل الطفل هو عامل رئيسي».

تفاوتات تعليمية طويلة الأمد

إلى جانب الصحة، تشير المراجعة أيضاً إلى أنّ فقر الوقود سيؤدي إلى تفاوتات تعليمية كبيرة وطويلة الأمد. حيث أوضح السير مايكل: «الأطفال الذين يعيشون في منزل بارد هم أقل عرضة لأن يكونوا قادرين على أداء واجباتهم المدرسية، مما يؤدي بهم إلى التخلف عن الركب في المدرسة. وعلى المدى الطويل من المرجح أن يؤدي ذلك إلى عمل منخفض الدخل وغير مستقر وعدم القدرة على تغطية نفقاتهم. إنّ التحصيل التعليمي هو مؤشر رئيسي للصحة وطول العمر على المدى الطويل».

حقائق وإحصائيات

تكلف الأمراض المرتبطة بالمنازل الباردة والرطبة والخطيرة هيئة الخدمات الصحية الوطنية أكثر من 2.5 مليار جنيه إسترليني سنوياً. وتوفي ما يقدر بنحو 63000 شخص في إنكلترا في موسم 2020–2021 نتيجة للوفيات الزائدة في فصل الشتاء (تقيس زيادة الوفيات في فترة الشتاء مقارنة بالصيف) وكان معظمها بسبب COVID-19 ولكن ساهمت فيها أيضاً المنازل الباردة وفقر الوقود، حيث يُعزى حوالي 10% من هذه الوفيات بشكل مباشر إلى فقر الوقود.
كان مؤشر الوفيات الشتوية الزائدة في إنكلترا في الفترة من 2002 إلى 2011 أعلى من المتوسط ​​في دول شمال أوروبا، مع ترتيب هذا البلد في هذا المؤشر أسوأ من بلدان مثل فنلندا التي تضم منازل أكثر دفئاً نسبياً.
من المرجح أن يصيب فقر الوقود أكثر تلك الأسر التي لديها أطفال وكذلك ذات الدخل المنخفض، والذين يعيشون مع إعاقة والمجموعات العرقية من السود والأقليات.
يجب على الحكومة الوطنية معالجة الأسباب الكامنة وراء فقر الوقود- فقد توقفت البرامج الوطنية أو تلقت تمويلاً مخفضاً حتى قبل انتشار الوباء.
من المتوقع معاناة أكثر من نصف الأسر من فقر الوقود بحلول كانون الثاني/يناير 2023 في إنكلترا، ومن المرجح أن يكون أعلى من ذلك في كل من ويلز وأيرلندا الشمالية وأسوأ بكثير في اسكتلندا، مما يؤدي إلى تفاوتات اجتماعية وصحية وتعليمية أكبر.

التوصيات مقابل طبيعة الرأسمالية

بعض ما ورد في التوصيات التي طرحتها المراجعة يشكل بحد ذاته، ورغم أنه لا يذكر ذلك، إدانة للرأسمالية وما وصلت إليه من تعفُّن في عقر دارها. فإذا كانت هكذا في عقر دارها، فكيف الحال إذاً في رأسمالية تابعة وتحمل التوجهات النهّابة نفسها بالجوهر، كما في سورية.
رغم أنّه ليس حلّاً يغيّر من طبيعة النظام الرأسمالي نفسه، لكن على الأقل لمست الدارسة توصيات تؤشّر، دون أن تقول ذلك، بأنّ المشكلة تكمن في النتائج الأساسية للرأسمالية وخاصةً التوزيع الجائر للثروة في المجتمع، ولذلك جاءت التوصيات بمثابة المطالبة بتخفيف نسبي للظلم، ولكن المشكلة أن التطبيق يحتاج إلى قوى سياسية جدية تمثل مصالح المتضررين، وهو الأمر الذي لا يبدو أنّه ناضج بما يكفي في بريطانيا حتى الآن. وعلى كل حال قالت إحدى توصيات المراجعة: «تحتاج تدخلات السياسة الوطنية إلى مواجهة التحدي المزدوج المتمثل في دخل الأسرة واحتياجات الطاقة - تشمل الحلول إدخال تعريفة اجتماعية (تقدم للأسر المؤهلة سعراً مخفّضاً على فواتير الطاقة)، وخفض أسعار الطاقة للجميع... واسترداد بعض التكلفة من خلال تكثيف الضرائب غير المتوقعة على شركات الطاقة».
وقالت توصية أخرى للدراسة نفسها: «لكي تعمل الاستراتيجية على المدى الطويل، يجب معالجة الأسباب الجذرية الكامنة وراء فقر الوقود، بما في ذلك اللبنات الأساسية للصحة مثل المنازل الدافئة والأغذية المغذية والوظائف المستقرة وامتلاك ما يكفي من المال لعيش حياة صحية وتعليم».
ويبقى السؤال: هل لدى الرأسمالية المأزومة اليوم إمكانية أو إرادة لتقديم تنازلات «كافية»، إلّا تحت ضغط كبير جداً و«كافٍ» وشعبي تلعب فيه الطبقة العاملة المنظّمة دوراً قيادياً؟ وما هو تعريف «الكافي» في الظروف الحالية؟ وهل من الممكن الحصول على «الكافي» في الإطار الرأسمالي الحالي أم صار لا بدّ من كسر الإطار نفسه بسبب وصوله إلى ضيق غير مسبوق تاريخياً؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1086