الأسباب العِلمية لفتك البرد بالسوريين

الأسباب العِلمية لفتك البرد بالسوريين

البشر «حيوانات مَدَاريّة» بالأساس، نظراً لنشوء أسلافهم في الغابات الاستوائية، وهم غير مجهّزين بيولوجياً بما يكفي حتى لمقاومة البرد الخفيف. أما كيف استطاعوا العيش في مناخات باردة، فلأنه- وعلى عكس الحيوانات القطبية التي طورت بالاصطفاء الطبيعي فراءً وجلوداً سميكة وطبقات ثخينة من الشحم تحت الجلد- قد تكيّفت الجماعات البشرية للارتحال والسكن في مناطق أبرد من الاستوائية بفضل العمل وتطور الدماغ الواعي المبدع واكتشاف النار وطهو الأغذية عالية الطاقة وصناعة الثياب والأدوات والاختراعات والكهرباء والمأوى والملبس وغيرها، بمعنى آخر عبر أساسيات ما يسمّى «الحضارة البشرية»، الأساسيات التي لم تعد تؤمّن بحدودها الدنيا لأغلبية البشر في بعض الدول، مثل سورية، رغم غناها بالثروات.

حرمان السوريين من مدفأتين: «البيولوجية» والاصطناعية

يقول العِلم إنّ البقاء على قيد الحياة في البرد، يتطلّب شرطين معاً: أولاً، توليد الجسم نفسه لكمية كافية من الحرارة عن طريق حرق الغذاء (وبالتالي لا بدّ من غذاء كافٍ). وثانياً، منع ضياع الحرارة من الجسم، عن طريق تأمين الثياب المناسبة والمأوى وتدفئة السكن من مصادر الطاقة المختلفة (كالمحروقات، والكهرباء).
وتتوقف درجة الحرارة الدنيا التي يمكن للكائن البشري أن يتحمّلها على كلٍّ من مدّة وشدّة التعرض للبرد. فالشخص العاري يبدأ بالشعور بالبرد عندما تنخفض حرارة المكان تحت 25 درجة مئوية، وعندئذٍ تبدأ بالعمل آليات فيزيولوجية من الارتجاف وتحويل الدم من أطراف ونهايات الجسم ومن سطح الجلد عبر تقبض الأوعية فيها نحو الأعضاء الداخلية العميقة الأكثر حيوية كالقلب والدماغ والرئتين والكبد والكلى. وتسمى هذ الآلية «إعادة توزيع الدّم التفضيلي» حيث يضحّي الجسم بتروية سطحه وأطرافه لصالح الحفاظ على تروية وحرارة الأعضاء الداخلية الأكثر أهمية.
وبذلك يستطيع الشخص البالغ، رغم ارتجافه وشعوره بالبرد، الاحتفاظ بحرارة جسمه الداخلية ضمن الحدود الطبيعية الآمنة، حتى في مكان بارد بالكاد فوق نقطة التجمد والهواء فيه ساكن (بلا رياح)، وحتى مع ثياب خفيفة ولكن بشرط أن يكون شخصاً جيّد التغذية على نحو معقول، مما يؤكد أهمية «المدفأة الداخلية».
الحرارة الداخلية الطبيعة لجسم الإنسان هي 37 درجة مئوية. وعندما تصل 38 درجة فهذه حمّى مزعجة. 40 درجة مهدّدة للحياة وتتطلّب تدخلاً طبياً فورياً، وتحت 36 ستجعلك ترتجف وتشعر بالبرد الشديد، وبانخفاضها إلى 35 يشتد شعور البرد قساوة، وقد يبدأ «النَّمَل» بالجلد ويصطبغ بالرمادي المُزرقّ لأنّ الجسم يضطر حينها إلى تطبيق شديد لتوزيع الدم التفضيلي.

وفيات الشتاء أكثر بـ 15% من الصيف

تقول الإحصائيات العالمية إنه في مجتمع حديث يزداد وسطي الوفيات عموماً في الشتاء أكثر بـ 15% مقارنة مع الصيف. أما في مجتمع يتم حرمان أغلبيته من أساسيات الحياة والغذاء والدواء والوقود والكهرباء...إلخ، من المتوقع نسبة أسوأ بالطبع. ويتسبب الطقس البارد بوفيات إما بآليات مباشرة (كانخفاض حرارة الجسم، الإنفلونزا، ذات الرئة، وغيرها)، وغير مباشرة (عبر السقوط، الحوادث، التسمم بأحادي أوكسيد الكربون كما في حوادث المدافئ وخاصة الحطب والغاز، وحرائق المنازل أو خيم اللاجئين).
تعطيل البرد لوظائف الأعضاء
تسبب البرودة القاسية عرقلة لوظائف الجسم والأعمال، فالخلايا العصبية الناقلة للإشارات تعمل عندئذٍ ببطء أكثر من العضلات المتحكمة بالأصابع مثلاً. وتعتبر الدرجة 12 مئوية حرارة الهواء الحَرِجة التي تمثل الحد الأدنى المطلوب لكي تعمل اليدان بمهارة جيّدة، ودرجة 8 مئوية الحد الأدنى ليبقى الجلد محتفظاً بحساسيّة اللمس، كما تنقص البرودة كفاءة عمل مستقبلات الألم، مما يظهر خطورة البرد مثلاً على زيادة الأذيّات المهنية للعمّال، ويؤكد ضرورة تأمين تدفئة أماكن العمل لتجنّب الضرر على صحة العمّال وجودة الإنتاج معاً.

أعراض «قضمة الصقيع»

«عضة البرد» وتسمى أيضاً «قضمة الصقيع» frost bite، وتسبقها عادةً علامة تحذيرية أخف قد تتطور إليها وتسمى قرصة الصقيع، وهذه الأخيرة تلاحظ في ذروة الأنف أو قمة الأذنين أو الأصابع، حيث يشحب الجلد ويفقد الإحساس، لتجمد طبقاته السطحية، وتؤدي إلى أعراض تشبه حرق الشمس مع جلد دافئ يتحول لاحقاً إلى اللون الأحمر الساطع ويتقشر، ولا تترك ضرراً دائماً بشرط تداركها بارتداء ملابس إضافية والتدفئة وإلا قد تتطور إلى «قضمة الصقيع» الحقيقية، وهذه الأخيرة أخطر حيث يبرد الجلد فعلياً إلى ما دون نقطة التجمد وتتشكل بلورات الجليد داخل خلاياه الحية مما يؤدي إلى قتلها. وعند إعادة التدفئة، ينتفخ الجلد وتتحول البثور إلى لون بنفسجي- أزرق أو أسود، وهذا بدوره يشكل درعاً أسودَ صلباً. إذا لم يكن الضرر شديداً تنسلخ الطبقة الميتة لتكشف عن بشرة صحية جديدة نمت تحتها، ومع ذلك تكون مؤلمة جداً. يُعرف هذا باسم قضمة الصقيع السطحية. لكنّ الأكثر خطورة قضمة الصقيع العميقة التي تصيب العضلات وحتى العظام، لأنها تؤدي حتماً إلى تلف دائم في الأنسجة قد يؤدي إلى بتر أصابع اليدين والقدمين أو القدم أو اليد بأكملها، أو حتى أجزاء من الذراع أو الساق.

تأثير العمر والجنس

المسنون والمسنات أقل تكيفاً من حيث آليات الارتجاف والتقبض الوعائي التي تفيد في إعادة توزيع الدم التفضيلي، مما يعرضهم لخطر أكبر. والرجال في خطر أكثر من النساء، ومع ذلك النساء أكثر عرضة تحديداً لإصابات البرد السطحية مثل قضمة الصقيع.

تأثير رفع أسعار الأدوية

مرضى الأمراض المزمنة وخاصة القلب والأوعية ومرضى السكري في خطر أكبر تجاه البرد. فمثلاً، مرضى اعتلال الكلية السكري يميلون أصلاً للشعور بالبرد طوال الوقت، الأمر الذي سيزداد سوءاً في الشتاء دون تدفئة ورعاية كافية أو إذا عانوا من سوء ضبط مستويات سكر الدم لديهم كما يحدث بسبب غلاء ثمن الأدوية.
من المعروف زيادة النوبات القلبية خلال الشتاء، ولذلك فمرضى القلب بحاجة إلى إبقاء أجسامهم دافئة طوال الوقت، في المنزل وخارجه، وإذا كانوا عمّالاً مضطرّين لبذل جهد إضافي لتحصيل الأجور الهزيلة يصبحون في خطر أكبر لاجتماع البرد والجهد معاً. تقول الإحصاءات في الولايات المتحدة بأنّ ما لا يقل عن 100 أمريكي سنوياً يموتون بنوبات قلبية أثناء قيامهم بتجريف الثلج حول منازلهم، ومن يُنقلون إلى المشافي لهذا السبب نفسه يفوقون 10 آلاف بالسنة، فكيف هي هذه الأرقام في المجتمع السوري الذي يعاني كوارث بكل المجالات؟

البرد يضعف المناعة ويزيد وفيات كوفيد

بسبب اضطرار الجسم لـ«إعادة توزيع الدم التفضيلي» كما شرحنا سابقاً، يسبب البرد نقصاً أو على الأقل خللاً في توزيع كريات الدم البيضاء المناعية المتاحة لمقاتلة العوامل الممرضة، كما أنّه من المعروف تثبيط البرد للأهداب الموجودة في ظهارة المجاري التنفسية، مما يسبب نقصاً في عمليات «كَنس» العوامل الممرضة وإخراجها، ما يعني زيادة مخاطر الإنتانات التنفسية، اعتباراً من الرشح العادي ووصولاً إلى كوفيد-19.

شعب متروك «لمناعة القطيع» ضد البرد!

من المستبعد، من الناحية العِلمية، أن تتمكن الكائنات الحية التي تقطن في سورية والمنتمية إلى نوع الإنسان العاقل homo sapiens خلال سنوات أو حتى عقود أن تتطوّر عبر الاصطفاء الطبيعي إلى نوع جديد من الأحياء ذات الفراء كالدببة القطبية أو الجلود السميكة كالفقمة... كما أنه لا توجد حتى الآن دراسة علمية حول التكيُّف المحتمل للأجيال الجديدة من السوريّين مع التقشّف القسري المفروض لسنوات على الشرطين الأساسيين لمقاومة البرد (الطاقة الداخلية من الغذاء، والخارجية من الوقود بأنواعه) عبر تغيّرات مثلاً بالاستقلاب والكيمياء الحيوية لخلاياهم. ولذلك يبقى الحلّ الأساسي المستدام هو منظومة جديدة تفتح إمكانية استعادتهم لثرواتهم المنهوبة وعكس مسار التدمير الليبرالي الرأسمالي المتوحش المهدّد حتى لأبسط مقومات الحياة الآدميّة على المستوى البيولوجي!

معلومات إضافية

العدد رقم:
1055
آخر تعديل على الإثنين, 31 كانون2/يناير 2022 21:28