غرامشي في عِلم اللغة وتحرير الطبقة العاملة
مجموعة مؤلّفين مجموعة مؤلّفين

غرامشي في عِلم اللغة وتحرير الطبقة العاملة

لم يكن غرامشي «منظّراً صِرفاً» بل سياسيّاً و«ثورياً محترفاً» كما وصف نفسه في مناسبات عديدة. وبتنظيره حول المثقفين واللغة كان يستجيب لمشكلة سياسية عملية: في كتاباته الباكرة، مشكلة تنظيم النضالات العمالية في الجناح اليساري للحزب. وفي السجن، مشكلة تحليل هزيمة الحركة العمالية أمام الفاشية وآليات إعادة الإنتاج الاجتماعي التي ثبّتتْ الفاشية، بما في ذلك عبر الآليات المؤسساتية للنظام الفاشي المبنية على قيود النقد الاجتماعي التي تم إدراجها في أشكال اللغة المحلّية. تقدم المادة التالية تلخيصاً (بتصرّف شديد) لأبرز ما ورد تحت عنوان «غرامشي كعالِم لسانيات» من كتاب «غرامشي، اللغة والترجمة» الصادر بالإنكليزية عام 2010 عن دار Lexington Books.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

اللغة لدى المفكر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي هي تعبيرٌ عن تجارب الحياة المعاشة، ومرتبطة بها. شكل اللغة يعبر عن تجارب المجتمع ويعزز مقولات الخبرة التي يتعرف فيها أعضاؤه على بعضهم وتتيح التنسيق الوثيق لنشاطاتهم والاتفاق فيما بينهم. بهذا المعنى، يقول غرامشي إنّ اللغة تنتمي إلى جانب شكل الحياة عضوياً، وكل لغة «تحتوي على عناصر تصوُّر العالَم والثقافة». ومع ذلك، تحمل اللغة في الوقت نفسه قيوداً على الممارسة العملية (البراكسس). ولا ينبغي قصرها على التطور بشكلٍ قفزات مصطنعة وإلا تحوّلت إلى خليط مهَلهَل.

اللهجات

لم ينظر غرامشي إلى اللهجات بحنين ماضوي (نوستالجيا) إلى رومانسية الحياة الريفية، بل كانت اللهجة بالنسبة له مجالاً لغوياً أكثر حميمية، تلعب دوراً في تطور اللغة، ولكنها تصبح بالضرورة قيداً لتطورها، باعتبارها شكلاً من أشكال الحياة التي تعكس علامات التطور. فشكل الحياة المسجّل باللهجة والمحادثة باللهجة كانت كافية لشكل الحياة هذا، ولكن ليست كافية لتغييره، كما كتب غرامشي في مقال له عام 1917.

الموقف من «اللغة العالمية»

كان لغرامشي موقف نقديّ تجاه المطالبات بـ«لغة عالمية» لجميع البشر في مرحلة تاريخية محدّدة، والتي كانت لغة «الإسبيرانتو» إحدى تجليات هذه المشاريع. وفي مقال جدلي لغرامشي عام 1918 ضد حركة الإسبرانتو، جادل صراحة ضد أية طريقة للتعامل مع مسائل اللغة «من فوق»، سواء بما يخص «لغة دولية» كالإسبرانتو، أو من حيث المصطلحات، أو من حيث فرض لغة قومية مصطنعة، مدركاً إمكانية استعمالها كمجرّد أداة رسمية للقمع وإقصاء اللهجات قسراً. وبدلاً من جعل الشكل اللغوي مشكلة ظاهرية، يجب أن تكون القضية هي العمل على بناء ثقافة جديدة والتي بدورها تستلزم لغة جديدة موافقة. واستنكر غرامشي الجهود المعاكسة واصفاً إياه بأنها «كوزموبوليتانية». وهكذا، فإن إدراك غرامشي لمشروع «لغة أممية» مرتبط بشكل أساسي بتحقيق الاشتراكية. يجب أن يبدأ التفكير اللغوي في العمل: بالتغلب على الحواجز الثقافية التي تحول دون المشاركة الاجتماعية، وفي مكافحة الأميّة، وبالتوافق مع ذلك كتب غرامشي في الدفتر رقم 11 من كرّاسات السجن:
«الشخص الذي يتحدث اللهجة فقط، أو لا يفهم اللغة القياسية فهماً تامّاً، يكون لديه بالضرورة حدسٌ بالعالَم محدودٌ أو إقليميٌّ إلى حدّ ما، متحجّرٌ وعفا عليه الزمن فيما يتعلق بالتيارات الفكرية الرئيسة التي تهيمن في تاريخ العالَم. ستكون مصالحُه محدودة، بدرجة أو بأخرى فئويّة أو اقتصادوية، وليست عامّة».
ومع ذلك، «العمومية» بهذا المعنى لا تعني أن تكون الشيء نفسه «للجميع»، فتطور اللغة الوطنية هو تطوير وتفصيل للخصوصية حتى لو كانت في شكل قومي (بمعنى تجاوزها ونفيها ديالكتيكياً، «إزاحتها الإعلائية»، نفيها نفيَ إزالةٍ واحتفاظ معاً)، ويبقى هذا مرتبطاً بعائلة اللهجات التي «تسكن» تحت مظلّتها؛ سيتم التغلب على القيود المحلية، لكن دون فقدان أرضية التجارب المعاشة.

تحرير العمل واللغة التحرُّرية

سعى غرامشي إلى تواسط «ديالكتيكي» بين التأكيد الرومانسي الذي شدد على عفوية «اللسان الطبيعي» (اللهجة) من جهة، وبين تصوّر لغة عالمية لدى يعاقبة الثورة الفرنسية التقدّميّين. من أجل القيام بذلك، لا بد من العمل على حيوية اللغة وتماسكها العضوي، لا يجب قمع اللهجة ولكن أيضاً لا ينبغي القفز فوقها. بدلاً من ذلك، يجب تطويرها في لغة عالمية ليست لغةً مختلفة تماماً، أو شكلاً ثابتاً على هذا النحو (ومن هنا جدال غرامشي ضد أي شكل من أشكال «التطهير» اللغوي)، بحيث تكون اللغة أداة مرنة ومتحوّلة في أشكال الحياة. لذلك فإنّ صياغة اللغة بالنسبة لغرامشي مرتبطة بالضرورة بالمشروع الاشتراكي. يبرز هنا النمط التأكيدي الديالكتيكي الذي نجده أيضاً في كتابات ماركس، فلا يعني التعليمُ الاستيلاءَ على شيء آخر مختلف تماماً، بل يعني تطوير الإمكانات التي يجلبها المتعلمون معهم. وهكذا، فإنّ دفاتر السجن تتخللها صيغ مثل «كل البشر مثقفون».
يجب قراءة ملاحظات غرامشي حول العمل على اللغة جنباً إلى جنب مع تعليقاته الموسعة على تحرير العمل (ولا سيما مقالاته منذ مجالس مصانع تورينو). تحتوي الممارسة العملية بالضرورة على لحظات تتجاوز التنظيم (المحدَّد خارجياً). مع تطور عملية الإنتاج الرأسمالي، أصبح العمال يلائمون بشكل متزايد الذكاءَ «المُحتَجز» في وسائل الإنتاج، وبالتالي يُدفَعون إلى أشكال من التنظيم الذاتي (وبالتالي أيضاً إلى تحويل الممارسة العملية للّغة في العمل). لقد أصبحوا مثقفين. إن تحرير العمل، انعتاق العمل وتحرير اللغة يشكلان وضعاً لا يمكن تحقيقه الناجز إلا في الشيوعية.
بالنسبة إلى غرامشي، يجب تحليل اللغة على خلفية سياق التحكم الاجتماعي: تقرير المصير ذاتياً؟ أم خارجياً؟ عندما يجري تقريره خارجياً، يتم اختزال إمكانات اللغة إلى مجرد إعادة إنتاج طقوسية، نوعاً ما، لأشكال الاجتماع. ولسانياً، يمكن الاستعاضة عنها إلى حد كبير بالإيماءات غير اللفظية، كما هو الحال في التفاعلات الموثوقة من الناحية التواصلية؛ ويكون التحكم الرمزي ضرورياً بشكل خاص في الأشكال الاجتماعية الأكثر تطوراً مع تقسيم عمل اجتماعي متطور، حيث لا يمكن إدارة العلاقات إدارةً مباشرة، بل يمكن الوصول إليها فقط من خلال توليف رمزي. هنا نواجه مقولة غرامشي عن ضيق أفق أشكال الكلام المحلّية. بالمقابل، تنشأ حالة معاكِسة (انعتاقية) إذا تم الانتقال إلى وضعٍ لا تعود فيه إعادة إنتاج العلاقات عمليةً تجري من خلف ظهور الأشخاص، بل عمليةً يتمّ التحكم بها من قِبلهم بالذات.

استعادة اللغة لصالح المنتِجين

من خلال احتكار العلاقات اللغوية الوصفية باعتبارها ممارسات مفصلية، فإن الوظائف الفكرية التقليدية تفيد إعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية في الأجهزة الثقافية؛ ويتحدث غرامشي في هذا السياق بسخرية عن أولئك المثقفين الذين يلعبون دور «مُفوَّضي» النظام. يساعد أمثال هؤلاء المثقفين على استخدام التعبير اللغوي لإظهار «الصلاحية الاجتماعية» للمنظومة، بما في ذلك عن طريق البراعة الجمالية في التعامل مع المعايير المعقدة للغة المدرسية. إنّ التحليل اللغوي التاريخي الذي ينطلق من المقدمات التي طوّرها غرامشي، لا يتعامل مع اللغة على أساس «مظهرها الجَمالي»، بل يهدف إلى استعادة المثقفين واستعادة اللغة بواسطة المنتجين ولصالح المنتجين أنفسهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1052
آخر تعديل على الجمعة, 21 كانون2/يناير 2022 21:49