تكنولوجيا «التلاعب بالأحلام» وتسليع أدمغتنا النائمة!
مجموعة من العلماء مجموعة من العلماء

تكنولوجيا «التلاعب بالأحلام» وتسليع أدمغتنا النائمة!

وقّع أكثر من ثلاثين عالماً وعالمة من عدة جامعات واختصاصات بالعلوم العصبية والنفسية، وخاصةً علوم النوم والأحلام، على رسالة مفتوحة تحذّر من عواقب الاستخدام الربحي لتكنولوجيا «حاضنة الأحلام المُستَهدَفة» TDI الذي انفتح الباب إليه مؤخراً عبر إقدام شركة تجارية أمريكية-كندية كبيرة على إجراء تجارب علمية لاستخدام هذه التكنولوجيا للتحكم بأحلام البشر، للتأثير على المستهلكين أثناء النوم بغرض الترويج لمنتوجاتها، الأمر الذي قال العلماء إنها خطوة خطيرة وغير مسبوقة. وفيما يلي تلخيص لرسالة العلماء، الموقعة في 7 حزيران 2021.

ترجمة وإعداد: د. أسامة دليقان

أعلنت مؤخراً شركة Molson Coors [وهي شركة مشروبات كحولية متعددة الجنسيات أمريكية- كندية] عن نوع جديد من الإعلانات، بتوقيت سبق مباراة البطولة السنوية للرابطة الوطنية لكرة القدم الأمريكية (السوبر بول) Super Bowl. وصمّمت إعلانها للتسلل إلى أحلامنا باستخدام تكنولوجيا «حاضنة الأحلام المستهدفة» TDI لتغيير أحلام حوالي 100 مليون مشاهد في الليلة السابقة للمباراة، وبالتحديد لجعلهم يحلمون بمشهد بيئة جبلية نظيفة ومنعشة يظهر فيها مشروب الجعة (البيرة) الذي تنتجه الشركة، لدفع الناس لزيادة شرب منتوجها أثناء مشاهدة المباراة في الواقع. وسيحصل المشاركون في «أكبر دراسة للأحلام في العالم»، وفق وصف الشركة، على حسومات ومكافآت مجانية على صناديق البيرة إذا أرسلوا الرابط إلى صديق لتوسيع المشاركة. وتفاخر مارسيلو باسكوا، نائب رئيس التسويق في الشركة بهذا الشكل الجديد من «التسويق التدخلي» الذي «لم يسبق له مثيل».


تاريخ «حاضنة الأحلام»

حاضنة الأحلام، تعني التقنيات المستخدمة أثناء اليقظة للمساعدة على الحلم بموضوع معين. وهي تعود لآلاف السنين وتمتد إلى ممارسات السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم. والجديد في السنوات القليلة الماضية هو بدء علماء الدماغ بتطوير أدوات علمية تسهّل احتضان محتوى أحلام معيّن، ما يجعلها أكثر استهدافاً وقابلية للقياس (حاضنة الأحلام المستَهدَفة Targeted Dream Incubation) وتسمح بإجراء التجارب العلمية على طبيعة ووظيفة الحلم، باستخدام أجهزة استشعار لتحديد متى يكون دماغ النائم مستقبلاً للمؤثرات الخارجية، وفي هذه الأوقات، يُدخلون روائح أو أصوات أو أضواء أو حتى الكلام للتأثير على محتوى الحلم.
ومع بدء تقنيات تصوير الدماغ بالتقاط المحتويات الأساسية للأحلام ودراسات النوم التي تؤسس تواصلاً في الوقت الفعلي بين الباحثين والحالمين النائمين، كانت «حاضنة الأحلام المستهدفة» حتى وقت قريب، ضرباً من الخيال العلمي لأفلام مثل Inception. ولكنها أصبحت حقيقة اليوم. وليست «كورز» الشركة الوحيدة التي أعلنت اهتمامها بالتكنولوجيا الجديدة، بل وتستخدمها «إكسبوكس» أيضاً لمنح اللاعبين المحترفين أحلاماً بألعاب الفيديو المفضلة لديهم، بينما تعلن «بلاي ستيشن» عن لعبة Tetris جديدة تستند إلى دراسة عن النوم توضح طريقة لإقحام لعبتها في الأحلام. وقامت شركة برغر كينغ عام 2018 بابتكار «همبرغر الكابوس» لمناسبة عيد الهالوين، مدعيةً أن دراسة مخبرية للنوم «أثبتت سريرياً» أن وجبتها الخاصة هذه تسبب الكوابيس. وتختبر عدة دراسات تسويقية بشكل علني طرقاً جديدة لتغيير وتحفيز سلوك الشراء عبر اختراق الأحلام والنوم.


ما وظائف الأحلام الطبيعية؟

أظهرت دراسات حديثة أن الحلم يمثل جانباً آخر من تطور الذاكرة الليلية. أحلامنا ليست محاولات لقمع رغبات معينة، ولا مجرد نتيجةٍ لنشاط «عشوائي» للدماغ النائم. يمثل الحلم آلية متطورة لاستكشاف صلة وأهمية الذكريات القديمة بالذكريات الأحدث، والسعي إلى ترتيب أحداث يومنا بين الذكريات والمفاهيم المتراكمة عبر عمرنا والتي لا حصر لها، مما يساعد على جعلنا أكثر «حكمة». وترتبط الأحلام برفاهية الناس، ويمكن لمحتواها التنبؤ بمدى تأقلم الشخص مع تحديات اليقظة والمخاوف، بما فيها المتعلقة بالصدمات والاكتئاب. وكان العقدان الماضيان نقطة تحول لأبحاث النوم، إذ توصّلنا خلالها إلى فهم أهمية النوم لذكرياتنا وصحتنا العاطفية. فأثناء نومنا، يقرر دماغنا أيّ الذكريات يجب الاحتفاظ بها وأيّها ينساها، وكيفية تنظيم ما يحتفظ به من ذكريات. ويمكنه أيضاً اختيار الاحتفاظ بالجوهر العاطفي للذاكرة وجعل التفاصيل الأخرى تُنسَى. ومن خلال هذه العملية الليلية، يشكل الدماغ ذكريات ماضينا، وإحساسنا بمن نحن الآن، وفهمنا لكيفية عيش حياتنا بشكل أفضل في المستقبل.


بين الاستخدامات الخيّرة والشريرة

يمكن لتغيير محتوى الأحلام أن يزيد إبداعنا ويعزّز مزاجنا ويساعدنا على التعلم. ونعتقد أن التدخل المستهدف في النوم والأحلام يمكن استخدامه للمساعدة في تخفيف العديد من الحالات النفسية بما فيها الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة.
ويمكن للتوصيل المستهدف للروائح أثناء النوم المساعدة بمكافحة الإدمان: تمّ تعريض المشاركين بتجربة أثناء نومهم لرائحة السجائر مقترنةً بروائح البَيض الفاسد [لإحداث ارتباط مُنفّر] مما أدى لتخفيفهم تدخين السجائر بنسبة 30% خلال الأسبوع التالي. ولم يختبر الباحثون بعد، إمكانية استخدام حاضنة الأحلام بغرض مفاقمة الإدمان، لكن دراسة شركة «كورز» للمشروبات، والتي قرنت صور عبوات البيرة لا برائحة كريهة بل بصور محبّبة لتيارات جبلية نظيفة، تسلط ضوءاً مزعجاً على هذا السؤال. تؤثر هذه التدخلات بوضوح على الخيارات التي يتخذها دماغنا النائم والحالم في كيفية تفسير أحداثنا اليومية، وكيفية استخدام ذكرياتها للتخطيط لمستقبلنا، وعلى تحيّز قرارات الدماغ تجاه أية معلومات يتم تقديمها أثناء النوم.
حتى الآن، يتطلب الإعلان التجاري المستند إلى «حاضنة الأحلام المستهدفة» مشاركتنا النشطة، مثلاً عبر اختيار تشغيل مقطع صوتي مدته 8 ساعات أثناء النوم. ولكن من السهل تخيّل سيناريو أكثر خطراً: عالَمٌ تصبح فيه الآلات الناطقة الذكية (والموجودة الآن بالفعل في غرف نوم أكثر من 40 مليون أمريكي) أدواتٍ للإعلان السلبي غير الواعي، بإذن منا أو من دونه. ويمكن أن تلعب الموسيقى التصويرية المصمّمة خصّيصاً كخلفية لنومنا تأثيراً مشابهاً لتأثير آلاف اللوحات الإعلانية المتناثرة على الطرق السريعة الأمريكية أثناء اليقظة.
لا يمكن أن نسمح بأن تصبح أحلامنا مجرّد ملعب آخر لإعلانات الشركات. الخطوة غير المسبوقة التي أقدمت عليها شركة المشروبات المذكورة، تفتح باباً جديداً للهجوم المؤسساتي على إحساسنا الشديد بهويتنا. وليس صعباً تخيّل التأثير السلبي لحملتها الإعلانية مثلاً على مدمني الكحول السابقين الذين تخلّصوا من إدمانهم. فلقد أظهرت الأبحاث أنه لدى متعاطي المخدرات أثناء تعافيهم من الإدمان، إذا ظهرت لديهم أحلام يرون أنفسهم فيها وهم يتعاطون المخدرات فإنّ ذلك كان يترافق عادةً مع رغبة شديدة لديهم للمخدّر. وتجدر بالملاحظة أيضاً أنه في دراسة الإقلاع عن التدخين التي ذكرناها سابقاً، وفي حين أنّ الروائح المنفّرة المترافقة برائحة التبغ المدخلة أثناء النوم (ورغم أنّ المشاركين لم يتذكّروا تعرضهم لها بعد الاستيقاظ) كانت فعّالة بالمساعدة على الإقلاع، لكنها لم تكن فعّالة عند تطبيقها أثناء الاستيقاظ! باختصار، احتمال إساءة استخدام هذه التقنيات أمر قائم وينذر بالسوء.


لأجل سلامتنا في الحلم واليقظة

لا يجب أن يمر إعلان الاستخدام التجاري لتكنولوجيا «حاضنة الأحلام المُستَهدَفة» TDI مرور الكرام، وكأنه مجرد وسيلة تحايل مسلّية، بل إنه منحدر زلق ذو عواقب وخيمة. إنّ زرع الأحلام في أذهان الناس بغرض بيع السلع، ناهيك عن المواد المسببة للإدمان، يثير أسئلة أخلاقية مهمة. فهناك فاصل أخلاقي واضح بين الشركات التي تبيع مثلاً مقاطع صوتية هادئة للمطر لمساعدة الناس على النوم، وبين تلك التي تستخدم أحلاماً مستهدفة للتأثير على سلوك المستهلك بطريقة لم تتوضح عواقبها حتى الآن. وبينما أشارت لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية إلى أنّ الإعلانات اللاشعورية أثناء اليقظة تنتهك قانونها الأساسي الذي يتطلب «الحقيقة» في الإعلان، لا توجد تشريعات مماثلة بما يتعلق بتعريض الناس للإعلانات أثناء النوم.
إننا وبصفتنا باحثين في مجال النوم والأحلام، نشعر بقلق عميق بشأن خطط التسويق التي تهدف لتحقيق الأرباح على حساب التدخل في معالجة الذاكرة الليلية الطبيعية. لقد سبق للأسف استخدام علم الدماغ لتصميم العديد من التقنيات المسببة للإدمان، من الهواتف المحمولة إلى وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تشغل الآن الكثير من حياتنا اليَقِظة. لا نريد رؤية الأمر نفسه يحدث لنومنا. نعتقد أن هناك حاجة ماسّة لاتخاذ إجراءات استباقية وسياسات وقائية جديدة لمنع الشركات من التلاعب بأحد الملاجئ الأخيرة لعقولنا الواعية واللاواعية المحاصَرة بالفعل: أحلامنا.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1047
آخر تعديل على الثلاثاء, 07 كانون1/ديسمبر 2021 20:19