فيروس «نيباه» بعيداً عن تضليل «الغارديان» ماذا يقول الطب المُسنَد بالبيِّنات؟

فيروس «نيباه» بعيداً عن تضليل «الغارديان» ماذا يقول الطب المُسنَد بالبيِّنات؟

انتشر خلال الأيام القليلة الماضية خبرٌ تم تناقله، بصيغ مختلفة في وسائل إعلام كبيرة وسائدة عالمياً وعربياً، عن مقال في صحيفة الغارديان وردت فيه جملة تتحدث عن «فاشية لفيروس نيباه Nipah في الصين، بنسبة وفيات تصل حتى 75% بوصفها الخطرَ الوبائي القادم المُحتَمَل». الجملة نُسِبَت إلى المديرة التنفيذية لـ«منظمة غير حكومية» NGOs تدعى مؤسسة «الوصول إلى الدواء» Access To Medicine التي رغم أنّ الغارديان نقلت عنها جملاً أخرى صحيحة علمياً حول فيروس نيباه، لكن هذه الجملة أعلاه التي تربط «الصين» تحديداً بفيروس «نيباه» وتوحي بأن هناك إصابات لبشر هناك، والتي نَسبَتها الغارديان إلى مديرة المنظمة، لم تضعها الغارديان ضمن قوسي اقتباس بحيث تؤكّد أنها جاءت على لسان المديرة فعلاً وليست تحريفاً أو تصرُّفاً من عند الغارديان. وفق البيّنات التي تستند إليها مادتنا هنا، فإنّه لا وجود مثبَتْ بالمراجع الطبية المعروفة لأي حالة إصابة لأي إنسان بفيروس «نيباه» في الصين، بل ظهرت أول إصابة بشرية في ماليزيا 1998، وأكبر عدد إصابات كان في الهند ولم يتجاوز المئات.

ما هو فيروس «نيباه»؟

وفقاً للمرجع الطبي «UpTodate» والمعروف بأنه يعطي مقالات علمية عالية الموثوقية، وواضحة المصادر، ويحدّثها باستمرار، يرد في مقاله الخاص بهذا الفيروس ما يلي:

«فيروسات نيباه وهيندرا هما من مسببات الأمراض الحيوانية المنشأ ولهما صلة ببعضهما، والتي ظهرت في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. وكلاهما من فيروسات RNA المنتمية إلى عائلة الفيروسات نظيرة المخاطية Paramyxoviridae وتصنَّف تحت جنس Henipavirus».

ويضيف المرجع «أدى فيروس نيباه لأول مرة إلى فاشية لدى الخنازير ولدى البشر في ماليزيا وسنغافورة بين عامي 1998 و1999، وتسبَّب في حدوث فاشيات بشرية متكررة في بنغلاديش وغرب البنغال، والهند منذ عام 2001، كما حدث تفشٍّ في الفلبين في عام 2014 وفي ولاية كيرالا بالهند في عام 2018. أما عدوى فيروس هندرا التي تصيب كلاً من الخيول والبشر فلقد تفشت في أستراليا منذ العام 1994».

ونسبة الوفيات بالفيروس مرتفعة بالفعل 40% إلى 75%، لكن حتى هذه النسبة كما نعلم محسوبة على عينة صغيرة نسبياً (مجمل الحالات لم تتجاوز الألف حالة، وفي بلدان نامية وظروف فقر وضعف صحي).

ومن الجدير بالذكر بأنّ المقال وفق هذا المرجع العالَمي، يذكر بوضوح أنّ معلوماته محدَّثة حتى تاريخ 7 كانون الأول 2020. ولو كان هناك إصابات موثّقة بين البشر حتى هذا التاريخ في الصين لكان ذكرَها المرجع.

ويتابع المرجع عن وبائيات هذا الفيروس: «تم اكتشاف فيروس نيباه في البداية عندما تسبب في انتشار التهاب الدماغ الفيروسي بين مربّي الخنازير في ماليزيا. وتمت تسمية الفيروس على اسم قرية في ماليزيا، حيث كان يعيش المريض المصاب».

والفيروس ليس «جديداً» كما توحي الشائعة المتداولة حالياً. بل يوضح لنا مقالٌ علمي آخر نُشِرَ في المجلة الطبية الشهيرة «علم الأوبئة والإنتانات»Epidemiology and Infection  ما يلي:

«في آذار 1999 تم عزل فيروس جديد NiV [الاسم المختصر للفيروس] من السائل الدماغي الشوكي (CSF) لمريض من قرية اسمها سونغاي نيباه Sungai Nipah».

ويتابع «في النهاية، أدى التفشي إلى 283 حالة ذات أعراض و109 حالة وفاة. في آذار 1999 تم الإبلاغ عن تفشي المرض في سنغافورة (11 حالة، ووفاة واحدة) بين عمال المسالخ». ثم يفصل حول إصابات بنغلاديش والهند والفليبين، وأيضاً لا ذكر لإصابات في الصين. وعموماً ذكرت بعض المراجع أن الأرقام الإجمالية لكل من أصيبوا من البشر حتى تاريخه لا يتجاوز 700 إصابة.

ووفق المراجع المذكورة أعلاه، فإنّ إصابة البشر المثبتة كانت بشكل فاشيات عنقودية clusters متفرقة جغرافياً وظنوا أن أول إصابة في قرية نيباه في ماليزيا أنها التهاب الدماغ الياباني قبل أن يعزلوا الفيروس الجديد من السائل الدماغي الشوكي للمصاب.

أما عن الصين فبما أن الفيروس مستودعه حيواني، وبما أن الصين فيها أعداد كبيرة من حيوانات برية منها الخفافيش، وبما أنه تم كشف وجود الفيروس في بعض الحيوانات ومنها ٢٣ نوعاً من الخفافيش موجودة في الصين، ولكن غير مقتصرة عليها، بل وموجودة ضمن قائمة أخرى من الدول أيضاً منها غانا في إفريقيا وبلدان أخرى في «نصف الكرة الغربي» – نظراً لذلك توجب الحذر والمراقبة، ولكن التهويل الإعلامي سمح لنفسه برفع مستوى «المراقبة» إلى مستوى الهلع والذعر والتضليل، بخلاف «الطب المسندة بالبينات» Evidence Based Medicine الذي يعتمد العلم والأدلة فقط، بعيداً عن التسييس والمآرب الأخرى.

 

تقرير المنظمة التي اعتمدت عليها الغارديان

المديرة التنفيذية التي سمتها الغارديان هي الدكتورة Jayasree K. Iyer وتعرف عنها منظمتها بأنها «عملت في المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأكاديمية ومراكز الفكر، وهي حاصلة على درجات دراسات عليا مختلفة (ماجستير ودكتوراه) من سنغافورة وكلية جونز هوبكنز للصحة العامة... وانضمت الدكتورة جياسري إلى المؤسسة في عام 2013... وعملت في واجهة مجتمع الصحة العالمي وصناعة الأدوية لمدة 12 عاماً»

وتؤجل الغارديان تنوير القارئ بمصادر أكثر تفصيلاً لتمويل المنظمة المذكورة حتى آخر المقال فقط فتختمه بالقول:

«يتم تمويل مؤسسة الوصول إلى الدواء من قبل الحكومتين البريطانية والهولندية، ومؤسسة بيل وميليندا غيتس، و Wellcome Trust و Axa Investment Managers»

وبمراجعة الرابط نفسه الذي تحيلنا إليه الغارديان عن المنظمة غير الحكومية التي استشهدت باقتباسات من مديرتها نجد أنّ التقرير المسمى Access to Medicine Index 2021 الذي أطلق ونشر على موقع المنظمة في يوم صدور مقال الغارديان نفسه في 26 كانون الثاني 2021، لم نجد في التقرير المؤلف من 235 صفحة أي إشارة تتوافق مع ما حاولت الغارديان الإيحاء به من ربط بين فاشية «جديدة» بين البشر في الصين وبين فيروس نيبا.

وفي الحقيقة كل المواضع الأقل من عشرة التي ظهر فيها اسم فيروس Nipah في تقرير المنظمة كان فقط ضمن مجموعة أخرى من الفيروسات التي يتحدث التقرير عن ضرورة الاستعداد لـ«احتمال» أن تصبح فاشيات وبائية، وهذا صحيح استناداً إلى قائمة منظمة الصحة العالمية حول العوامل الممرضة المرشحة لاحتمال أن تكون جوائح. مع الانتباه بأن التقرير نفسه ليس مرجعاً "طبياً علمياً" بل هو تقرير اقتصادي للصناعات الدوائية بشكل بحت، يتناول كيفية تخطيط عدة عمالقة صناعات دوائية ولقاحات لنشاطها ضمن العالم بما فيه الصين، التي يُذكر اسمها في التقرير دون ربطه إطلاقاً لا هي ولا غيرها بشكل حصري بفيروس نيباه، بل أغلب مواضع ذكر اسمها توارد جنباً إلى جنب مع الهند والبرازيل بوصفها قوى بشرية وسكانية كبيرة، وكذلك بوصفها تتمتع ببنى تحتية صناعية ضخمة، تفكر الشركات بالاستثمار فيها.

يجدر بالذكر أن الغارديان سبق وتناولت التحذير من فيروس نيباه أيضاً في مقالات تعود لأعوام 2018 و2017.

 

الخلاصة

في ظل المعارك السياسية الحالية يذهب العلم وموضوعية المعلومات ضحية لسوء النقل وضعف البينات التي تستند إليها كثير من وسائل الإعلام النافذة. والأزمة تعيد إلى الأذهان أهمية إعادة الألق للعلم المسند بالبينات عموماً وللطب المسندة بالبينات Evidence Based Medicine خصوصاً.

 

ملاحظة:
بعد إغلاق تحرير هذه المادّة مساء 31 كانون الثاني 2021، تسنّى للكاتب الاطّلاع على تطوّرات إضافية مهمّة أدّت إلى فضيحة إعلامية ومهنيّة لكذبة «الغارديان»، اضطرّتها إلى تعديل مقالها وحذف أيّة إشارة إلى الصين منه. لمزيد من التفاصيل مراجعة المادة التالية على هذا الرابط.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1003
آخر تعديل على الثلاثاء, 02 شباط/فبراير 2021 12:30