إعلام الـ«نَسْخ/لَصْق» وفضيحة «الغارديان» البريطانية حول «نيباه والصين» نموذجاً
نشرَ قسم «علوم وتكنولوجيا» في عدد قاسيون 1003 بتاريخ الإثنين 1 شباط 2021، مقالاً بعنوان: (فيروس «نيباه» بعيداً عن تضليل «الغارديان»، ماذا يقول الطب المُسنَد بالبيِّنات؟)، والذي أُغِلِقَ تحريرُه مساء الأحد 31/1/2021. وبعد نشره تسنّى للكاتب الاطلاع على تفاصيل جديدة كانت تحدث بالتزامن مع كتابته، ولا سيّما ظهور ردًّ رسميّ صيني وانتقادات أخرى، أدّت إلى اضطرار الغارديان للاعتراف بكذبتها وتعديل مقالها، في فضيحة، تتجاوز دلالاتها برأينا الحادثةَ بحدّ ذاتها. كان التركيز في مقالنا السابق الذِّكر على تقديم المعلومة الطبية العِلمية المسندة بالبيِّنات. أما المادة التالية فنركّز فيها على الجانب الصحافي والسياسي من الموضوع نظراً لرمزية الحادثة وعلاقتها بآفةٍ مزمنة لدى كثير من وسائل الإعلام العربية الكبرى والصغرى، ألا وهي الانجرار الأعمى وراء «السيّد الغربيّ» على حساب المهنية والموضوعية والضمير.
تسلسل الأحداث
الثلاثاء، 26/1/2021، الساعة 11:30 صباحاً بتوقيت غرينيتش (الواحدة والنصف بعد الظهر بتوقيت دمشق) – نشرت صحيفة «الغارديان» البريطانية على موقعها الإلكتروني تقريراً كتبته صحفية اسمها «جوليا كوليوي» Julia Kollewe ونقلت فيه عن لسان الدكتورة «جاياسري» – مديرة «منظمة غير حكومية» مموَّلة من رؤوس أموال كبرى في الصناعات الدوائية ومن الحكومتين البريطانية والهولندية – الجملة التالية:
«سلّطت جاياسري ك. آيير الضوء على فاشِيَةٍ [= حادثة تفشّي وانتشار an outbreak] لفيروس نيباه في الصين، مع معدّل وفيات يصل إلى 75%، بوصفه خطر الجائحة الكبيرة التالية المُحتَمَلة».
وكما وردت بالإنكليزية:
Jayasree K Iyer highlighted an outbreak of the Nipah virus in China, with a fatality rate of up to 75%, as potentially the next big pandemic risk.
وهي جملة يصعب أن يُفهَم منها سوى معنى واحد هو: أنّ «فاشيةً» an outbreak لفيروس «نيباه» المذكور، قد وقعت فعلاً بين البشر في الصين، وأنّ هناك الآن «تهديداً» أو «احتمالاً واقعياً» بأن تتحول هذه الفاشية (المحلية) إلى جائحة (عالمية) pandemic انطلاقاً من الصين. هذا عدا عن استعمال كلمة «سلّطت الضوء» highlighted التي توحي وكأنّ «الفاشية» المزعومة وقعت بالفعل ويتمّ «التعتيم» عليها في الصين، إلى أنّ جاءت «الغارديان» ومصادِرُها «البطولية» فأخرجوها إلى النور عبر «نافخي صفارات الإنذار» Whistleblowers الأخيار!
الثلاثاء، 26/1/2021، الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش، أيْ بعد 6 دقائق من نشر المقال على موقع الغارديان، قامت كاتبته جوليا كوليوي بنشر التغريدة التالية على حسابها في تويتر، تلخّص فيها الرسالة الأساسية المراد للمقال أن يوصلها:
«يُحذِرُ تقريرٌ مستقلّ من مؤسسة (الوصول إلى الدواء Access To Medicine) من أنّ عمالقة الصناعات الدوائية غير جاهزين للجائحة التالية، مُسلِّطاً الضوء على خطرٍ من فيروس نيباه في الصين وفيروسات أخرى».
مع إرفاقها برابط مقالها في موقع الغارديان، ومع إشارة تذكر فيها أيضاً حساب تويتر للمؤسسة المذكورة @AtMIndex وهذا يمكّن حساب المؤسسة من تلقي إشعار لرؤية تغريدتها، ومع ذلك لم يلقَ لا المقال ولا التغريدة، طيلة خمسة أيام بعد النشر، أيّ رد فعل من المؤسسة المذكورة ولا من مديرتها الدكتورة «جاياسري» التي تواصلت الصحفية جوليا معها من أجل استخدام تصريحاتها في مقال الغارديان المذكور. وبالتالي على مدى أيام كان هناك صمت، أقل ما يمكن وصفه بأنه «مريب» من مؤسسة (آكسيس تو ميديسن) ومديرتها، تاركين وسائل إعلام أخرى من بينها وسائل إعلام عربية تتناقل مقال الغارديان بشكل محموم و«تطبل وتزمّر» به وتثير الذعر عبر البلدان.
ولم تتحرك المؤسسة ومديرتها، باتجاه تقديم توضيح وتنصُّل من المسؤولية عن الكذبة الواردة في المقال، إلا بعد حدوث تطوُّرات معيَّنة فقط. فما هي هذه التطورات؟
من التضليل إلى الفضيحة
بدأ مسار الأمور يتغيَّر باتجاه تحوُّل مقال «الغارديان» إلى فضيحة، منذ صبيحة الأحد 31/1/2021، عندما نقلت وسائل إعلام مصرية وغيرها، أنّ السفارة الصينية في القاهرة، أصدرتْ ردّاً مكتوباً للصحفيين، قالت فيه: إنَّ بعض وسائل الإعلام تناولت تقارير مؤخراً عن «ظهور فيروس جديد في الصين» يدعى «نيباه»، وأوضحت السفارة بأنَّ هذا غير صحيح قائلة: «ربط هذا الفيروس بالصين أمر غير صحيح لأن الفيروس موجود في جنوب آسيا وليس الصين تحديداً» ومؤكدة غياب أي دليل علمي يسند هذه الادعاءات. ودعت السفارة وسائل الإعلام إلى اعتماد الأخبار والتقارير التي تستند إلى الدقة.
وفي اليوم نفسه 31/1 أيضاً، قررت بعض وسائل الإعلام، متأخرةً، الإصغاء إلى بعض الأصوات العلمية، المناقضة لرواية الغارديان، فقامت فضائية «ON» المصرية مثلاً، عبر برنامجها «كلمة أخيرة» بالاتصال عبر الفيديو من ووهان في الصين، بالطبيب وأستاذ الأمراض الصدرية، علي الوعري، للاستفسار منه عن مدى صحة المعلومات المنتشرة كالنار في الهشيم. فأوضح هذا الطبيب قائلاً:
«إنّ الخبر الذي تم نشره من جريدة الغارديان البريطانية تم تضخيمه بشكل كبير في الإعلام... مما أدى إلى اعتقاد البعض بأنّ هذا الفيروس ينتشر الآن في الصين، وأنّ الصين منشأ هذا الفيروس. لكنّي أؤكّد لكم وللمستمع الكريم بأنّ هذا الوباء لا ينتشر في الصين، ولم يكن ينتشر مسبقاً ولم تُسجَّل إصابات به» مشيراً إلى أنّ كلّ ما هنالك أنّ مناطق جنوب شرق آسيا والمناطق الحارة بشكل عام تحتوي غابات طبيعية تعيش فيها خفافيش الفاكهة التي يمكن أنْ تنقل هذا الفيروس، ومؤكّداً بأنّه «لا يمكن أنْ نجزم بأنّ هذا الفيروس سينتشر من الصين».
إحراجات على تويتر
بعد انتشار خبر الردّ الصادر عن السفارة الصينية في القاهرة، صباح الأحد 31/1/2021، ظهرت في مساء اليوم نفسه استفسارات وأسئلة من بعض الصحفيين العرب والأجانب (بين الساعة 5 و6 مساءً بتوقيت غرينيتش) بشكل تعليقات على تغريدة كاتبة المقال بالغارديان (جوليا كوليوي). فمنهم من طالبوا بالإجابة بوضوح على سؤال «هل هناك حالياً أيّة حالات من فيروس نيباه في الصين»؟ ومنهم من علَّق قائلاً: «مرحباً جوليا، تذكر مقالتك اندلاع فاشية فيروس نيباه في الصين، حسب السيّدة آيير [مديرة مؤسسة أكسيس تو ميديسن]. فهل جاء هذا الكلام منها؟ هل تحقَّقتِ أنتِ من ذلك؟ لا أرى أخباراً في أي مكان تؤكد تفشي المرض في الصين، لكن مقال الغارديان أدى إلى نشر مقالات مذعورة في العالم العربي حول الوباء الوشيك، هل يمكنكِ التوضيح؟».
فغرّدت جوليا بإجابة أولية على هذا السؤال في الساعة 6:35 مساءً (غرينيتش) بالقول: «اعتقدت أنَّ هذا ما قالتْه لي ولكني أتحقق منها للتو. شكراً لك على سؤالك». وبعد نحو ساعة من الزمن (7:38 مساءً) غردت تعليقاً جديداً ذكرتْ فيه حساب تويتر الخاص بسوزان وولف، مسؤولة قسم التواصل في مؤسسة (أكسيس تو ميديسن) قائلةً لها «إني أرسل إليك إيميلاً عاجلاً وملحّاً». ولم تمضِ عشرون دقيقة حتى اضطرّت المؤسسة المذكورة أخيراً، أنْ تخرج عن صمتها، فغرّدت مديرتها الدكتورة «جاياسري ك. آيير» في الساعة (7:55 مساءً) تعليقاً توضيحياً على تغريدة جوليا كاتبة مقال الغارديان سيِّئ الصيت، قائلةً:
«مرحباً. فقط للتوضيح، لا يوجد حالياً تفشٍّ لفيروس نيباه في الصين. كنا نقول فقط أنّ الأمراض المعدية الناشئة مثل نيباه، وشيكونغونيا، إلخ، يمكن أن تتفشى في أي وقت. وإذا أثَّرَتْ على دول كبيرة مثل الصين، فقد تكون كارثية. الأمراض المعدية الناشئة (EIDs) لها قدرة كامنة وبائية».
ثم بعد ذلك بدقيقتين فقط (7:57 مساءً/غرينيتش) هرعَتْ كاتبةُ مقال الغارديان لنشر تغريدة مستقلة على حسابها الشخصي في تويتر تقول فيها:
«لقد قمتُ بإزالة الإشارة إلى الصين من المقال، وأوضحتُ في ملاحظة بأسفل المقال، بأن Jay [جاياسري ك. آيير، مديرة مؤسسة أكسس تو ميديسن] تحدثت عنها بشكل عام [أي عن الصين]. لقد ذكرَتْ لي الصين بالفعل، ولكن كان هناك سوء تفاهم على ما يبدو».
وبالفعل صارت النسخة المعدلة من مقال الغارديان خاليةً من أيّ ذكر للصين إطلاقاً، وأضيفت في أسفله حاشية تقول: «تم تعديل هذه المقالة في 31 كانون الثاني 2021. وكانت نسخة سابقة قد ذكرت أنّ Jayasree K Iyer سلطت الضوء على فاشية لفيروس نيباه في الصين، مع معدِّل وفيّات يصل إلى 75%، باعتباره خطر وباء كبير قادم محتمل. آيير تحدثتْ عن فيروس نيباه بشكل عام وأن تفشي المرض في بلد كبير مثل الصين قد يكون كارثياً. لا يوجد حالياً تفشٍّ لنيباه في الصين».
ومع ذلك، فإنّ ما يدعم الاعتقاد بأنّ هذه الكذبة زُرِعَت في مقال الغارديان زرعاً متعمّداً وبتنسيق كامل بين المشتركين فيه منذ البداية، من الغارديان إلى الكاتبة إلى المؤسسة (أكسيس تو ميديسن) نفسها المموَّلة من الحكومة البريطانية والهولندية وعمالقة رؤوس أموال لها مصلحة بالصناعات الدوائية (مثل مؤسسة بيل وميليندا غيتس)، هو بالتحديد هذا التأخير لعدة أيام حتى «استفاقت» مديرة المؤسسة بأنّ الكاتبة «حرَّفَت» كلامها! ومتى «استفاقت»؟ فقط بعد ظهور ردّ رسمي صيني واستفسارات مُحرِجة من الصحفيين لكل من الغارديان والمؤسَّسة.
إعلام الـ Copy & Paste العربي والعبودية للإعلام الغربي
رغم هذه الفضيحة الواضحة، فإنّ بعض وسائل الإعلام العربية ما زالت حتى وقت إعداد هذا التقرير (نهاية الأول من شباط بتوقيت دمشق) لم تصحِّح أخبارَها المغلوطة المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية، ومنها وسائل إعلام «كبيرة» وواسعة الانتشار، وحمل بعضها الآخر عناوين كاذبة، ضاربت في «بورصة التهويل» أكثر حتى من مقال الغارديان الأصلي، عبر عناوين من قبيل «الغارديان: فيروس قاتل جديد (نيباه) يضرب الصين»! مكتفين بالتقليد الأعمى لـ«جلالة الغارديان» دون أن يتعبوا أنفسهم أو «ضميرهم» الصحفي والمهني بأيّ تفكير نقدي أو تحقُّق علمي.
وهذا ليس غريباً إذا تذكَّرنا أنّ «القِبلة» التي يتوجه إليها أمثال هذا الإعلام، و«الآلهة» التي «يعبدونها» بشكل ذليل، هي عادةً الإعلام الغربي بشكل عام، والبريطاني والأمريكي بشكل خاص، والدولارات التي ترعى توجّهاتهم التحريرية والسياسية. على سبيل المثال، وحتى ساعة إعداد تقريرنا هذا، هناك تقرير مكتوب لقناة «الحرة» الأمريكية الناطقة بالعربية، نُشِر في 31 كانون الثاني، وما زال يحمل العنوان التالي: «أخطر من كورونا ويهدد البشرية... ما قصة فيروس (نيباه) الذي ظهر في الصين مؤخراً؟». وحتى بعد أنْ عدّلت الغارديان مقالَها واعترفت بخطئها، تجاهلت «الحرة» الأمريكية هذا التعديل، وأصرّت على اختيار العنوان التالي لتقرير مصوّرٍ لها نُشِر اليوم، 1 شباط 2021، على قناتها الرسمية في يوتيوب. والعنوان هو: «ما هو فيروس نيباه الذي يثير الهلع في الصين؟».