تدجين الحبوب في منطقة المتوسط

تدجين الحبوب في منطقة المتوسط

يعتبر حوض البحر المتوسط، وخاصةً الجزء الشرقي منه، من أهم المراكز في العالم لأصول نباتات المحاصيل . في العشرينات من القرن العشرين لاحظ مستكشف النباتات الروسي (نيكولاي ڤاڤيلوف) Nikolai I. Vavilov أن العديد من الزراعات القديمة والعديد من النباتات المزروعة وأسلافها أتت من منطقة الهلال الخصيب، وكذلك من بعض المناطق المجاورة التي تمتد من شرق المتوسط نهر الأردن ووادي البحر الميت وشمال وشرق سورية وتركيا والعراق وإيران.

 

ورغم أن الأشكال الدقيقة لتنوع المحاصيل غير ممكنة إلا أن هناك أكثر من 500 نوع محاصيل مزروعة في حوض المتوسط، بما فيها الأنواع الأصلية والغريبة التي زرعت هنا في بادئ الأمر. إن الأصل الدقيق للزراعات في المنطقة التي وُجدت بين حوالي 9000 إلى 11000 سنة خلت، مع الشعير (Hordeum) والقمح (Triticum) ربما تكون أول الأنواع  المزروعة، التي دُجِّنت في هذه المنطقة.

وربما كان الصيادون- الجامعون يستغلون الحبوب البرية منذ 23000-20500 سنة خلت.

إن تدجين النباتات ارتبط بشكل واضح مع تدجين الحيوانات. وتم إعطاء «دفعة» تطورية للأعلاف والنباتات الرعوية للماشية – مثل البرسيم أو الفصّة (Medicago sativa) – من قبل البشر في نفس الوقت _أو قبل ذلك_ الذي ظهرت فيه الحبوب الأولى المزروعة. وُجدت أدوات الطحن والملاط، وكذلك المناجل في الشرق الأدنى حيث تعود إلى عصور قديمة جداً، لكنها لا تتطابق بالضرورة مع تاريخ بذر المحاصيل حول القرى. ومهما يكن التاريخ الدقيق فقد قُسّم اختراع الزراعة عالم النباتات المرتبط بالممارسات الزراعية إلى قسمين، وهي: النباتات الحقلية والنباتات غير الحقلية . كما قسم التاريخ الحديث إلى فترة عصر الحقول الذي بدأ مع التدجين النيوليتي للنباتات، وعملية استقرار المجموعات البشرية في قرى زراعية، وعصر ما قبل الحقول.

تدجين الحبوب

ظهرت تفاصيل رائعة في الفترة الأخيرة، فيما يتعلق بأصول الحبوب الأربعة في العالم القديم، التي وجدت ودجنت في الشرق الأدنى، وهي القمح والشعير والشوفان والجودار (Secale) .

 ينحدر القمح المزروع الذي دُجّن أولاً، منذ حوالي 9500  ) -11000 سنة .من عدد من الأسلاف البرية  وتاريخ معقد. القمح أحادي السنبلة ثنائي الصيغة الصبغية (Triticum monococcum) وثلاثي الصيغة الصبغية (Triticum timopheevii) التي ما زالت تزرع إلى اليوم، على نطاق ضيق في البلقان والأناضول ويبدو أن الاثنين مشتقين من النوع (Triticum boeticum) المنتشر في جنوب غرب آسيا وشرق المتوسط.

إن القمح الرباعي الصيغة الصبغية الإيمر(Triticum dicoccon)  والقمح القاسي (Triticum turgidum) ينحدران من الإيمر البري شرق المتوسطي (Triticum dicoccoides)، الذي اكتشف من قبل كوتشي T. Kotschy في جبال لبنان في العام 1855. إن قمح الخبز الذي نأكله اليوم (Triticum aestivum) هو سداسي الصيغة الصبغية وينحدر من تهجين بين القمح القاسي وقريبه ثنائي الصيغة الصبغية (Aegilops tauschii). من أهم مميزات القمح القاسي هي: أنّ سفا القمح لا تكون سريعة التقصف كما في قمح الإيمر، وبالتالي تبقى سليمةً حتى وقت الحصاد. بالإضافة إلى ذلك فعندما تحصد في أقصى فترة نضوجها، تنفصل سنابل القمح القاسية عن الغلاف البذري، وبالتالي فمن السهل دراستها.

الشعير المزروع

تم تدجين الشعير المزروع (Hordeum vulgare) في الوقت نفسه الذي دجن فيه القمح ولعب دور «قمح الإنسان الفقير» في المناطق ذات الهطول المطري المنخفض والترب الفقيرة. وهو ينضج قبل شهر من القمح، ولكن نوعية الحبة تكون أقل، وقد زرع منذ العصور الوسطى على الأقل كعلف أخضر أو معالج وليس للخبز. وقد ظهر أن السلف البري للشعير هو (Hordeum spontaneum) والذي يعتبر نباتاً محلياً في شرق المتوسط، والمناطق الإيرانية الطورانية المحاذية. ويبدو أن هناك مورثة واحدة تفصل النوعين ولكن هذه المورثة هامة جداً للمزارعين، إذ أنها تتحكم بهشاشة  محور السنبلة والساق . يوجد الشعير البري في الموائل البدائية والحشائشية ويظهر تنوعاً كيميائياً-حيوياً واضحاً. وهو مستعمر شرس للماتورال(السهوب المتوسطية) المضطرب، وحشيش حقلي شائع، وينمو على أطراف الطرقات، ويتهجن بحرية مع الأنواع المزروعة. ونجد الحالة نفسها في الجودار المزروع (Secale cereale) وهو نوع من الحبوب الغذائية الهامة، في شمال وشرق أوروبا وكذلك سلفه البري شرق المتوسطي (Secale montanum).

 إن وراثة الشوفان ((Avena sativa بما فيها الأنواع المزروعة المسماة عادة: الشوفان البيزنطي (Avena byzantina)، والشوفان العاري Avena nuda)) ليست أقل تعقيداً من وراثة القمح والشعير والجودار. إن الشوفان المزروع شديد القرابة من مجموع أنواع الشوفان السداسية البرية (Avena sterilis) المنتشرة بشكل واسع في حوض المتوسط. وهنا أيضا،ً يبدو أنّ التهجين بين النوعين شائع جداً ويبقى العديد من المادة الوراثية البرية، التي تجمع وتستثمر من قبل مربي النبات. ويظهر هناك نمطان متميزان من انتشار البذور في الأشكال الحشائشية والبرية. أحدها: الشكل المسمى ستيريلز (sterilis) جنيني الإنبات، حيث تقع الحبة على الأرض بعد نضجها، وبفضل شكلها الخاص «تحفر» طريقاً لنفسها في التربة حيث يمكن للبذرة أن تنتش. أمّا في الشكل المسمى فتوى (fatua) وعلى العكس من سابقه، فكل زهيرة تنفرط، ويبدو من الصعب حصادها. 

محصول ثانوي

وكما في حالة القمح والشعير، فإنّ تدجين الشوفان يتطلب تعديلاً في النمط البري لانتشار البذور، من أجل الحصول على نبات قليل الانفراط، وقد تمت زراعة الشوفان في وقت متأخر عن الحبوب الباقية، في وقت ما قبل 3000 و2000 سنة خلت. وانتشر بعدها بسرعة في أوروبا وشمال أفريقيا مما يؤكد ملاحظة فافيلوف Vavilov  بأن الشوفان يجب أن يعتبر كمحصول «ثانوي» أو مشتق. ويبدو أن مزارعي الشوفان الحديثين وجدوه كنوع حشائشي يصيب حقول القمح والشوفان في عصر النيوليتي، وقد تم تدجينه لاحقاً كمحصول حبوب جديد زرع منفصلاً.

 

معلومات إضافية

العدد رقم:
796