ثورة صناعية «ثلاثية الأبعاد»
كان اختراع الآلة البخارية الحدث الأكبر في تاريخ البشرية الصناعي على الإطلاق، لقد كانت تلك الثورة الصناعية الأساس لنهوض البروليتاريا كقوة بشرية تبتغي كسر احتكار الكبار لأدوات الإنتاج الميكانيكية الجديدة تلك، التي لم يكن قادرا على شرائها سوى كبار الرأسماليين بحكم ثمنها الباهظ، مما أدى إلى إزاحة الحرفيين القدامى بعد أن بدأت تلك الآلات تنتج سلعا أفضل وأرخص من تلك التي أنتجها أولئك العمال الصغار بأنوالهم اليدوية وأدواتهم البدائية، وبدا للحظة أن الرأسماليين قد تمكنوا من السيطرة على كل شيء في حين فقد العمال كل شيء.
كانت تلك الآلات الهادرة سبباً في ضمور نظام صناعي بالكامل واستبداله بنظام آخر جديد رجّح الكفة لأحد الأطراف، وبقسوة، لكن الكفة اليوم عادت لتختل من جديد، فالثورة الصناعية الجديدة أصبحت على الأبواب، وهي أقوى بكثير مما قد نظن!
اختلاق من المكونات الافتراضية
تمتلك التكنولوجيا الصناعية الجديدة اليوم القدرة العجيبة على اختلاق المواد الملموسة من مجموعة من المكونات الافتراضية، يبدو الأمر مستحيلاً للوهلة الأولى، لكن مطالعتك للأخبار الرقمية اليومية على الشبكة العنكبوتية قد تنفض عنك جميع تلك الشكوك، هناك على الدوام مجموعة جديدة من الشاب يتناقلون ملفاً الكترونياً صغيراً سيصل في النهاية بعد الكثير من التعديل والتنقيح إلى «طابعة رقمية ثلاثية الأبعاد» تبدأ في ثوان بصياغة مجسم متكامل يحاكي التفاصيل المذكورة في ذلك الملف الالكتروني بكل حرفية ودقة، هي ولادة «خلق» مجسم واقعي من وحي الخيال الرقمي، ومع تلك الحقائق، أخذت خطوات «الطباعة الرقمية ثلاثية الأبعاد» تتسع يومياً ولم يعد بالإمكان تجاهل الدور المستقبلي لمثل هذه التكنولوجيا عندما تنوي القضاء على نماذج الصناعة التقليدية، وبالأخص الاحتكارية منها.
تجميع لا تحويل
تمر عملية التصنيع الجديدة هذه بثلاث مراحل أساسية، حيث تعمل كاميرات خاصة على التقاط صور مختلفة الزوايا للكائن المراد «خلقه»، كما يكمن خلق كائنات جديدة تماما عن طريق برامج تصميمية خاصة كما لو أنك تقوم برسمها بيديك، ثم تليها مرحلة تشكيل مجسم رقمي تعمل برمجيات خاصة على تحليله وصياغة خطوات تصنيعه، لتنتهي العملية بحركات مدروسة من أذرع الطابعة الآلية اعتماداً على تقنية «الطبقات»، حيث تقوم الآلات بتشكيل الجسم الهدف طبقة تلو الأخرى، تختلف في طبيعتها ووظيفتها، وعن طريق توضيع المواد بدقة في المكان الذي نريد ثم تنمية الطبقة الحالية بطبقة أخرى بعد أن تستقر حالتها الفيزيائية، وهنا بالذات يكمن الفرق بين هذه التقنية وطرق التصنيع التقليدية، لأنها ببساطة تعتمد على منطق «تجميعي» كامل لطبقات المادة بدلاً من المنطق الـ «التحويلي» الذي عهدناه في طرق التصنيع المعروفة كالنحت والقطع والنشر والطرق وغيرها، كما أنها مستدامة إلى حد كبير، فلا هدر ولا ضياع إن كنت تعمل على تصنيع دقائق الأغراض بكل دقة، مما يعني توفيرا كبيرا في المصادر، كما يمكنك صناعة ملايين النسخ من الغرض ذاته دون أن تستطيع تفريق احدها عن الآخر، كما قامت بالاستغناء عن عدد كبير من الآلات الضخمة في المصانع الشاسعة واستبدلتها بطابعة صغيرة تتصل بجهاز الكمبيوتر، مما يعني نقل عملية التصنيع إلى المستهلك مباشرة أو إلى الجهة المستفيدة من ذلك لتعمل على تلبية احتياجاتها بنفسها عند كسر أو عطب أي جزء من أجزاء منتجاتها!
طباعة السيارات
تمتلك الطباعة الثلاثية الأبعاد ميزة أخرى غير قابلة للمنافسة، فهي رخيصة للغاية بالمقارنة مع ذات المنتجات التي تقدمها الشركات التقليدية، مما يدفع الكثير من الناس إلى تجاهل المنتجات المفرطة في كلفتها والتوجه إلى المصنعين المحليين من الشباب الذين يمتلكون مجموعة صغيرة من الطابعات الجديدة تلك، لقد قامت شركة «Local Motors» الأمريكية الصغيرة بتكبيد العملاق الصناعي الأمريكي «فورد» ملايين الدولارات بعد أن نشرت العديد من التصاميم الرقمية لقطع غيار السيارات التي تصنعها على شبكة الانترنت، وأصبح بالإمكان «طباعة» ما يريد المرء من قطع إن امتلك واحدة من تلك الطابعات، كما يمكنه شراء أي من تلك القطع من تلك الشركة الصغيرة بربع السعر المعتاد، وكما أعلنت الشركة اليوم نيتها تصنيع سيارة كاملة بعد أن تمت «طباعة» قطعها واحدة تلو الاخرى!
أدركوا أنها النهاية
«لا تشكل التقنيات الجديدة تهديداً لمن ينوي تقبلها واعتناقها» يقول أحد المهندسين المشاركين في المشروع: «دعونا نتذكر أيام السيارة الأولى.. لقد شكل ذلك الاختراع صدمة لمصنعي عربات جر الخيول التقليدية، أحس مصنعوها بالعجز عند رؤيتهم للسيارة الأولى وهي تمر بجوارهم، أدركوا بسرعة أنها النهاية، وقرروا التأقلم وعلى الفور، عندها تحولت جميع ورش صناعة العربات إلى ورش لصيانة العجلات وقطع السيارة الميكانيكية، وهذا ما نبتغيه اليوم، على تلك الشركات الكبرى أن تدرك بأن بيعها لتك القطع الرخيصة بأثمان باهظة أمر غير عادل أبداً، سيبدأ استغلالاها بالضمور تدريجياً أمام قوة الطباعة ثلاثية الأبعاد، عليهم أن يدركوا ذلك وبسرعة قبل فوات الأوان! »
التهم المبتكرة
تتعرض الطباعة الثلاثية الأبعاد للكثير من الهجوم بعد أن خرجت من ورشات العمل وانتهت بين يدي المستخدمين العاديين، وهذا متوقع بالطبع بعد أن أحس عمالقة الصناعات الكبرى بالهزة التي أثارها هذا الاختراع، وبدأ البعض منهم باعتناق التقنية الجديدة وإدخال تلك «الطابعات» في خطوط إنتاجه مع تعديل طفيف في الأسعار، في محاولة ما لامتصاص مفاعيل ذلك الابتكار، بينما انكب القسم الآخر في البحث عن طرق «تشريعية» تتهم رواد الطباعة الثلاثية الأبعاد بخرق قوانين «الملكية الفكرية» و«مشاركة البيانات المحظورة على الانترنت دون ترخيص« وغيرها من التهم المبتكرة للحد من تناقل ملفات الطباعة الالكترونية بعد أن تفشى الكثير منها على الشبكة ومن دون أي مقابل مادي، لكن الجميع يعلم بأن تلك الإجراءات لن تفيد في إيقاف هذا المفهوم الثوري الجديد في الصناعة، وهنا كان لابد من تناول العديد من القضايا المستجدة التي تحتاج للكثير من البحث والمتابعة، فما الذي يمنع أي من الناس من صناعة بندقية آلية دون أي أرقام تسلسلية على طابعته المنزلية ثلاثية الأبعاد؟ كيف يمكن تعقب تلك الأسلحة أو حتى الحد من إنتاجها؟ والأهم، تأثير ذلك على قوانين الإنتاج، ودور العمال، ودورة التصنيع، وسواها من المفاهيم؟!