عصر الخرافات (1/2)

عصر الخرافات (1/2)

يكتنف الخرافة شيء من البريق الساحر، فهي ورغم تعاطينا المترفع معها، تحمل قدراً من الإثارة والتسلية، وتسمح للخيال البشري بالتهويم بعيداً.. ولكن إلى أي حد؟؟

لماذا نعاقب «أطلس» ونجبره على حمل قبة السماء على كتفه؟ ألا يعود ذلك إلى أننا لم نكن نعرف في حينها شيئاً عن قانون الجاذبية، وقمنا لذلك باختراع خرافة أسميناها أطلس، ليصل هذا «الأطلس» بيننا وبين النجوم ويبرر عدم سقوطها على رؤوسنا، ويسد بذلك عجزنا؟ لا بد أن الأمر كذلك.. ولكن أليس قانون الجاذبية نفسه أكثر عمقاً وبعداً وحتى إثارةً من محاولة التفسير «الأطلسية» التي لم تكتشف شيئاً نوعياً جديداً؟ تلك المحاولة قامت فقط بتضخيم حجم رجل فرد فجعلت رجليه في الأرض ورأسه في السماء ليتمكن من حملها..

إن العلم بهذا المعنى، قادر على فتح آفاق أوسع بما لا يقاس من تلك التي تفتحها الخرافة، لكن ما يستدعي وقفة جدية هو نوع محدد من الخرافات، نوع جديد نسبياً، غير ذلك الذي نقرؤه في الأساطير أو نسمعه في حكايات الجدات أو نصادفه في السير الشعبية، إنه ذلك النوع الذي يلبس لبوس العلم، والذي سنصطلح على تسميته «الخرافة العلمية»!! والذي ندّعي، على أساس انتشاره الواسع والانشغال الكبير لطلاب المعرفة به، أن كل العصور التي مضت لم تكن بحق عصور خرافات بقدر ما هو عصرنا هذا. وندّعي أن عصرنا بالذات، هو عصر الخرافات!!

«الخرافة العلمية»، خرافة كغيرها من الخرافات، من حيث هي تفسير خاطئ، وأحياناً عجز عن التفسير، لكنها لا ترد الظواهر إلى آلهة الميثولوجيا أو غيرها، إنما تردها إلى آلهة جديدة تلبسها لبوس العلم عبر سلسلة من المعادلات الرياضية والأشكال التوضيحية، ويزيد أمرها التباساً حين تنطلق من قوانين صحيحة ومثبتة لتفسر ظواهر أخرى غير التي عنيت بها تلك القوانين..

ونضرب مثالاً واسع التداول يعود إلى عام 1954، هو فرضية الأكوان المتكافئة أو (parallel universes)، والتي خرج بها الفيزيائي الأمريكي هيو إيفيرت. تنطلق فرضية الأكوان المتكافئة من مبدأ عدم التعيين لهايزنبرغ والذي يقول بعدم إمكانية تحديد موقع وكمية حركة الالكترون في اللحظة نفسها، وتبني عليها فتقول ما معناه: (بما أننا لا نستطيع تحديد كل من موقع وكمية حركة الالكترون في اللحظة نفسها، فإن ذلك يعني أن الإلكترون، وفي لحظة معينة،  يمكن له أن يكون في أي مكان من الغمامة الالكترونية التي تحددها سويته الطاقيّة، وبما أن عدد إمكانيات ذلك التواجد، في اللحظة المعنية، يصل إلى اللانهاية، وبما أن الالكترون يحقق فعلياً واحدةً فقط من تلك الإمكانيات، فإنه يحقق الإمكانيات الأخرى في أكوانٍ أخرى نصطلح على تسميتها الأكوان المتكافئة). ذهبت بعد ذلك الشبكات التلفزيونية العالمية، والأمريكية والبريطانية بشكل خاص CNN و BBC وغيرها، إلى تطوير الفرضية والبناء عليها عبر برامجها الوثائقية «العلمية»، فأصبح من الممكن أن يكون هنالك نظير لك في كون آخر موازي يقرأ المادة التي تقرؤها أنت، هذه المادة مثلاً، ولكنه يميل برأسه بزاوية تختلف قليلاً عما تفعل، وفي الكون الثالث بزاوية ثالثة وفي العاشر يجلس في مكان آخر وهكذا.. والتقطت هولييود مادة غنية لعدد كبير من الأفلام التي يلتقي فيها الأبطال بنظرائهم في الأكوان الأخرى، وربما يكون أحدهم خيّراً والآخر شريراً.. والخ. 

نشير هنا إلى أننا عرضنا الفرضية عرضاً موجزاً، إذ توجد طريقة أخرى لبنائها تعتمد مبدأ هايزنبرغ أيضاً، ولكنها توظفه في معالجة الطبيعة المزدوجة الموجية والجسيمية للفوتونات لتصل إلى النتيجة نفسها.. ولكنّ نظرة منهجية سريعة لهذه الفرضية، تطرح سؤالاً كان ينبغي على أصحاب الفرضية والمهللين لها أن يجيبوا عليه، وهو: (هل يمكن بناء المعرفة على اللامعرفة؟، هل يمكن الانطلاق من العجز عن التحديد أو التعيين. بكلام آخر، هل يصح الالتفاف على مبدأ العجز عن المعرفة «مبدأ هايزنبرغ»، لتبريره وتحويله إلى معرفة؟!)

إن خللاً أساسياً يكمن في طريقة صياغة فرضية الأكوان المتكافئة، وكذلك الأمر مع الأوتار الفائقة، لأنها هي الأخرى تنطلق من المبدأ ذاته. يمكن وصف الخلل المشار إليه بنظرة فاحصة للمخطط المبسط التالي:

إن الرسم التوضيحي السابق، يبين آلية تطور العلوم المختلفة باعتبار العلم مكوناً من ثلاثة مكونات أساسية هي: (المنهج، القوانين، الفرضيات)، إضافة إلى التجربة باعتبارها معيار الحقيقة. يحدد المنهج باعتباره القوانين التي خضعت لعدد كبير من التجارب أثبتت صحتها مراراً، والقوانين هي تلك المكتشفة حديثاً والتي إذا ما استمرت بإثبات صحتها فإنها ستنتقل آلياً إلى خانة القوانين المنهجية. وبالتوازي مع ذلك فإن الفرضيات باعتبارها مشاريع لقوانين جديدة، فهي فعلياً الجزء الأكثر حركية في العلوم، وهي في الوقت نفسه منفذ العلوم على التطور المستمر. تصاغ الفرضية –كما يبين الشكل- انطلاقاً من المنهج أو القوانين أو التجربة، أي أن صياغة مسودات القوانين إما أن تنطلق من الإنجازات النظرية المنتهية (المنهج + القوانين) لتعميقها، أو أن تنطلق من التجربة التي تعبر عن ظواهر جديدة أو عن عجز القوانين السابقة عن تفسيرها..

وبناء على ذلك فإن لطريقة صياغة الفرضية أهمية حاسمة في تحديد مدى علمية وصوابية التطور اللاحق للعلم، والخروج على الطرق العلمية في صياغة الفرضية لن يصب إلى في توليد «فقاعات» علمية تؤخر وتضر بتطور العلم اللاحق..

إن فرضية الأكوان المتكافئة تعتمد على العجز عن تحديد موقع وكمية حركة الالكترون باعتباره أمراً واقعاً خلال التجربة، ولكنها لا تفكر للحظة في أن ذلك العجز ناجم عن عجز المقاييس وتخلفها، وتستسلم من الجولة الأولى لتقول: «لا يمكن» وتنتقل مباشرة لتقول: « تعالوا ننطلق من أنه لا يمكن»..!! وبهذا المعنى تتحول «الأكوان المتكافئة» إلى خرافة علمية..