أثر الفراشة.. الضرورة والمصادفة والحرية (الحلقة الثانية)
استندنا في بداية الحلقة السابقة إلى عرض مبسط لنظرية الشواش، لندخل منها إلى مفهومي الحتمية والعشوائية، ومن هذين المفهومين إلى مقابليهما الفلسفيين، أي الضرورة والمصادفة..
لكي نتمكن من وضع هاتين المقولتين (الضرورة والمصادفة) في سياقهما الصحيح، سلكنا طريقاً إجبارياً يبدأ من تمييز أولّي بين (الحتمية- الضرورة) وبين الجبرية، وذلك عبر سجال بين نصير للجبرية ونصير للحتمية، وأسمينا هذا الأخير (نصير وجود المصادفة).
انتهت الحلقة السابقة والسجال على أشده، والغلبة فيه كانت لا تزال لمصلحة الجبري. وأصبح لزاماً علينا أن نأخذ استراحة قصيرة من السجال، نعيد فيها ترتيب بعض القضايا والمفاهيم، لنعود إلى السجال ثانية..
الجبرية والحتمية
ربما نجد التعبير الأكثر بلاغة عن الجبرية عند «نيوتن فرنسا»، سيمون بيير لابلاس (1749-1827)، العالم العظيم الذي خطت معه العلوم خطوة كبرى إلى الأمام بتحويله الحسابات التفاضلية من أداة رياضية مجردة لا تكاد تجد بضع تطبيقات خارج إطار الرياضيات المجردة، إلى أداة أساسية في الفيزياء وغيرها، ذلك عدا عن تطويره لهذه الأداة وعن (تحويل لابلاس) الشهير، وغيرها من الإنجازات.
لابلاس، كان من بين علماء آخرين وصفو الكون بأنّه ساعة دقيقة، وأن درجة انتظامه ضمن القوانين لانهائية، ورغم رقي الطرح العلمي الذي قدمه لابلاس إلّا أنّ جوهره الفلسفي لم يختلف كثيراً عن تصورات (الكون الأنيق) ذي الأجرام السائرة وفق دوائر مكتملة ومتزنة، وهي التصورات التي بقيت سائدة بين الفلكيين الأوروبيين طوال عصور الظلام (400-900م) والعصر الوسيط (900-1400م)، حتى بدأت تزول في أواسط عصر النهضة (1400-1700م) مع يوهانس كيبلر (1571-1630) الذي تمطّت المدارات الدائرية على يديه لتغدو إهليلجية. يمكن ترجمة تصور لابلاس عن (الساعة الكونية) بقوله أنّ معرفة توضع الأجرام السماوية الدقيق في لحظة محددة، يسمح بمعرفة كل وضع سابق لها، وكل وضع لاحق وفي أية لحظة كانت، وذلك استناداً إلى قوانين نيوتن نفسها ولكن مع تطويرها التفاضلي.. ولكن كما زالت سلطة إقليدس عن الفراغ الهندسي على يد كوباتشوفسكي وريمان، فإنّ سلطة نيوتن على الفراغ الفيزيائي هي الأخرى زالت على يد أينشتاين، ولكن أينشتاين نفسه ما كان لينجز هذا لولا القفزة التفاضلية التي أسهم فيها لابلاس وآخرون كثر.
رغم سقوط افتراضات لابلاس وغيره من علماء القرن الثامن عشر حول إمكانية معرفة توضع الأجرام السماوية الدقيق في كل لحظة سابقة ولاحقة انطلاقاً من معرفة توضعها الدقيق في لحظة ما، واستناداً إلى نيوتن، فإنّ الفلسفة التي قادتهم لوضع هذه الفرضية (وهي الجبرية) لم تسقط نهائياً، وبقيت حلماً يداعب مخيلة كثير من المشتغلين في العلوم البحتة، وخاصة أولئك المنصرفين نحو الفيزياء العالية، ولعل أبرز تعبير عن ذلك هو محاولات البحث عن (نظرية كل شيء) التي ينبغي لها الوصول إلى قانونية ما تربط بين القوى الأربع (الجاذبية الكتلية، الكهرطيسية، النووية القوية، والنووية الضعيفة)..
القانون العلمي
أطلنا في الحديث عن الجبرية، ولم نقل شيئاً بعد عن الحتمية. إنّ المشترك بين الاثنتين هو استنادهما إلى القانون العلمي، أي القانون الموضوعي، ولكنّ كلاً منهما تتعامل مع القانون تعاملاً فلسفياً مختلفاً، ولذا حان الوقت للحديث عن القانون العلمي من وجهة النظر الفلسفية..
القانون بتعريف بسيط، هو التعبير عن علاقة ثابتة ومتكررة بين مجموعة من المتحولات التي تصف ظاهرة ما من ظواهر الطبيعة أو المجتمع البشري أو التفكير. ويصل البشر مرحلة عالية من النضج في فهم القانون (وفقاً لإنجلز) حين يستطيعون التعبير عنه بلغة الرياضيات. أي حين يتحول إلى علاقة تابعية شكلها الأبسط يتضمن متحولاً تابعاً أو متأثراً ومتحولات مستقلة أو مؤثرة. والمتحولات المختلفة، مؤثرة ومتأثرة، هي جوانب للظاهرة المدروسة، فمثلاً قانون الغازات الكاملة: (P.V=n.R.T) أو (الضغط*الحجم= عدد المولات*ثابت الغازات*درجة الحرارة المطلقة) يعبر عن علاقة ثابتة بين عدد محدود من جوانب الظاهرة الغازية، فكلما زاد الضغط قلّ الحجم وارتفعت الحرارة، وكلّما زاد الحجم انخفض الضغط وازدادت درجة الحرارة وإلخ. ونسبة الزيادة والنقصان يحددها الثابت (n.R) إذا افترضنا ثبات عدد مولات الغاز المدروس.
هذا القانون قادر على إعطاء نتائج صحيحة بدقة عالية جداً، ولكنّها ليست دقة لا متناهية، وهذه حال جميع القوانين.. لماذا؟
جوانب الظاهرة
إنّ أي قانون يدرس أية ظاهرة كانت، إنما يدرسها على ثلاثة مراحل:
تحديد المتحولات الأساسية (العوامل الأساسية المؤثرة والمتأثرة)، وبكلام آخر تحديد الجوانب الأساسية للظاهرة المدروسة.
اكتشاف العلاقة السكونية بين هذه المتحولات- الجوانب.
اكتشاف العلاقة الديناميكية بينها، أي مع أخذ عامل الزمن بعين الاعتبار.
يتبع..