أثر الفراشة.. الضرورة والمصادفة والحرية ((الحلقة الأولى))

أثر الفراشة.. الضرورة والمصادفة والحرية ((الحلقة الأولى))

«رفة جناح فراشة في الصين، ربما تسبب إعصاراً في الولايات المتحدة» بهذه الجملة الشهيرة يجري تقديم وتبسيط ما يسمى نظرية الشواش أو chaos theory

تدرس نظرية الشواش، الرياضية- الميكانيكية، السلوك العشوائي أو غير المتوقع في أنظمة خاضعة لقوانين محددة معروفة مسبقاً. وتقوم هذه النظرية على محاولة دمج نقيضين ضمن قانونية واحدة، هذان النقيضان هما: الحتمية (التي تفترض القدرة على التنبؤ بسلوك نظام ميكانيكي ما انطلاقاً من معرفة قوانينه، وقد استند انتشارها في مستوى العلوم الميكانيكية وغيرها من العلوم، إلى النجاحات التطبيقية الكبيرة لميكانيك نيوتن الكلاسيكي)، والعشوائية (القائلة بعدم القدرة على التنبؤ نتيجة فشل ميكانيك نيوتن نفسه في تفسير سلوكياتٍ عديدة على المستويات الميكروسكوبية، وبكلام آخر عدم القدرة على التنبؤ نتيجة التعقيد الهائل للعالم).

بدأت بذور هذه النظرية بالتشكل مطالع ستينيات القرن المنصرم، على يد عالم الأرصاد الجوية الأمريكي إدوارد لورنز، الذي اكتشف رياضياً أنّ تغيرات طفيفة في شروط البدء يمكن أن تتسبب بتغيّرات هائلة في مسار الحركة ونتائجها. ومنذ ذلك الحين وحتى الآن، سمحت تقنيات الحاسب المتطورة باطراد، وسرعة معالجتها للنماذج الرياضية المعقدة، استناداً إلى التطور الهائل والمتراكم للحسابات التفاضلية وللموديولات الإحصائية، بمزيد من الرسوخ لنظرية الشواش بوصفها أداة تنبؤيّة فعالة.

إنّ نظرية الشواش هذه ليست إلّا صياغة جديدة لمقولة الضرورة والمصادفة الفلسفية (ولا يقلل هذا من شأنها بطبيعة الحال، ذلك أنّ أهميتها العملية لا تكمن فيما أوردناه عنها، فهو متضمن في المقولة الفلسفية قبلها بأكثر من مائة عام، بل في النماذج الرياضية التي وضعها لورنز والتي تحولت إلى أساس لجملة من التطبيقات في مجالات عديدة)

الضرورة والمصادفة

إنّ مفهومي الحتمية والعشوائية هما مقابلا الضرورة والمصادفة. الضرورة تترجم رياضياً بالقانون، والمصادفة تعبر عن تلاقي الضرورات، أو عن تفاعل القوانين فيما بينها على مستوى العالم المادي بأسره (ونقول العالم المادي لا الكون، لأن هذا الأخير كان محدوداً سابقاً بالتصورات الميتافيزيقية، وغدا أوسع لاحقاً كاصطلاح فلكي، ولكنه بقي محدوداً بفرضيتي الانفجار العظيم والانتفاخ الكوني)

وكي تتضح مقولة (الضرورة والمصادفة) لا بد من استعراض الفرضيتين التاليتين ونقاشهما:

أولاً: كل الأحداث عشوائية/تصادفية ولا يحكمها أي قانون، وبالتالي لا يمكن معرفة العالم ولا التنبؤ بحركته أو حركة أي جزء منه.

ثانياً: كلّ الأحداث جبرية (ولا نقول ضرورية أو حتمية وسنفسر الفرق في مكان آخر)، أي أنّ هنالك جملة من القوانين تحكم حركة المادة ككل، وبمعرفتها معرفة دقيقة نستطيع التنبؤ بالسير اللاحق ليس في الثانية التالية فقط، بل وفي كل ثانية لاحقة! هذا بالضبط ما ذهب إليه لابلاس في القرن الثامن عشر، مستنداً إلى نيوتن نفسه.

الفرضية الأولى سقطت نهائياً منذ عصر نيوتن الذي وجدت قوانينه تطبيقاتها الناجحة الهائلة. ولكنّ نقض الفرضية الثانية أصعب بكثير من نقض سابقتها، ولذلك سنقوم بعملية النقض على مراحل:

سجال حامٍ!

أولاً: ربما يلجأ المرء لنفي الجبرية إلى استخدام نظرية الشواش التي بدأنا حديثنا بها، ولكنّ «الجبري» يستطيع الرد ببساطة بالقول أنّ هذه النظرية بالذات إنما تزيد الجبرية إثباتاً. لأنّ عدم معرفة الإنسان لشروط البدء الدقيقة لحركة ما، لا يعني أنّ تلك الشروط عشوائية، وإنّ حجم التغير اللاحق في مسار الحركة سواء كان كبيراً أم صغيراً، والناجم عن تغير الشروط الابتدائية، هو أمر مستقل عن وعينا، سواء أدركناه أم لم ندركه، فإنّه يخضع لقانون يحكمه. بل ويمكن للجبري أن ينهي مرافعته ساخراً: «لا يحق لنا أن نحوّل جهلنا بالقوانين الحاكمة للطبيعة إلى قانون لها، فما تسميه أنت مصادفة أو حدثاً عشوائياً ليس إلّا تبريراً لجهلك بالقانون الذي يحكم الظاهرة المعنية، وأكبر دليل هو الدهشة اليائسة التي ترتسم على ملامحك الآن»

ثانياً: ربما يحاول نصير وجود المصادفة التفلّت من قانون «الجبري» بالقفز نحو الاستقلالية النسبية للوعي عن الواقع المادي، بأن يسأل متذاكياً، وعلى سبيل المثال: «وهل مرافعتك التي تقدمت بها منذ لحظات كانت مقررة مسبقاً بالقوانين الكونية؟ وإن كان الأمر كذلك فما الفرق بينك أنت نصير القوانين العلمية وبين رجال الدين الذين يقولون بأننا مسيرون لا نملك من أمرنا شيئاً».. ولكنّ هذه المحاولة ستكون بائسة أكثر من الأولى، لأن صاحبنا يحاول الدفاع عن مقولة (ضرورة- صدفة) من باب آخر وعبر مقولة أخرى هي (ضرورة- حرية) سنتطرق لها في مكان آخر، ولأنّ ابتسامة صفراء ماكرة ترتسم على شفتي الجبري الذي اكتملت في ذهنه عملية تصنيع رصاصة الرحمة ولم يبق عليه سوى إطلاقها: «أولاً، رجال الدين لا يقولون بالتسيير وحده بل وبالتخيير أيضاً، أي أنهم أقرب إليك كثيراً وأبعد عني، أنا الذي أسميتني محقاً نصيراً للقوانين العلمية. وثانياً، نعم إنّ ما قلته في مرافعتي السابقة مقرر مسبقاً، وكذلك ما أقوله الآن، وما قلته أنت، فدماغي ودماغك هما جزء من العالم المادي، يخضعان لقوانينه، والأفكار ليست إلّا شكلاً خاصاً لتمظهر الشحنات الكهربائية»

 

.. يتبع

آخر تعديل على الخميس, 24 آذار/مارس 2016 17:17