الاحتكار والرّيع التكنولوجي وانتفاضة الجنوب العالمي - الجزء 1: الجانب النظري
شيدت الرأسمالية الرقمية بقيادة الغرب نظاماً إمبراطورياً جديداً في القرن الحادي والعشرين، حيث تتيح الملكية الفكرية والتمويل واحتكارات المنصات تحويلاتٍ هائلة للثروة من الجنوب العالمي إلى الشمال العالمي. سنتطرق في هذا المقال إلى «الريع التكنولوجي» الذي أصبح اليوم الوسيلة الرئيسة لاستخراج الفائض الإمبريالي. وانطلاقاً من إطارٍ نظري ماركسي، نُبيّن كيف انتقل استحواذ الفائض من خطوط المصانع إلى دوائر المعلومات والمنصات الرقمية، في توازٍ مع أنماط السلب الاستعماري السابقة. لكن على الجهة المقابلة، علينا أن ندرك وجود توجّهاتٍ مضادّة ناشئة: مبادراتٌ تكنولوجية تقودها الدولة في الصين والهند، ومساعٍ إقليمية في أمريكا اللاتينية وأفريقيا لتعزيز السيادة الرقمية، وتعاونٌ جنوب–جنوب في العلوم والتكنولوجيا. تتحدّى هذه التطورات قوّة الاحتكار في الشمال، وتلمّح إلى نظامٍ رقمي متعدد الأقطاب.
خلال العقود الأخيرة، احتلّت قمم الاقتصاد العالمي حفنةٌ من التكتلات التكنولوجية والمؤسسات المالية المتمركزة إلى حدٍّ كبير في الغرب. وترتكز هذه الإمبراطورية الرقمية الجديدة على السيطرة على الملكية الفكرية، والبنى التحتية الرقمية الرئيسية والشبكات المالية، بما يتيح ما يمكن وصفه باستخراجٍ غير مسبوقٍ للفائض التكنولوجي من أطراف النظام العالمي.
يظهر لنا جليّاً اليوم، أنّ النظام التكنولوجي العالمي ليس ساحةً محايدة، بل هو أحدث بنية تحتية للتراكم الإمبريالي. فكما كانت القوى الاستعمارية تستنزفُ المواد الخام والعمالة من مستعمراتها، فإنّ مراكز الإمبراطورية اليوم تستحوذ على القيمة، عبر البراءات والخوارزميات والبيانات والمنصات الرقمية. يحتكر رأس المال الغربي «المرتفعات الآمرة» للاقتصاد الرقمي– التقنياتُ المِلكية، والبحثُ والتطوير، وأسواقُ المال، وأنساقُ المنصات– ومن ثَمّ يقتنص ريعاً تكنولوجياً من الجنوب العالمي.
في الوقت نفسه، يُنتج هذا البناءُ ردودَ فعلٍ ومقاومات. تحت بريق عمارة العولمة الرقمية، تتحرّك الأطراف. إنّ الاقتصادات الصاعدة والفئات المقهورة تُعلن حقّها في التنمية التكنولوجية بشروطٍ أكثر عدلاً. من سعي الصين إلى الاكتفاء الذاتي في أشباه الموصلات، إلى نشر الهند بُنىً رقميةً عامة، ومن حركات المصدر المفتوح في أمريكا اللاتينية، إلى الاستراتيجيات الرقمية القارية في أفريقيا، تتحدّى قوىً جديدة استدامة هيمنة الشمال ضمن سلاسل الإنتاج العالمية.
يطرح ذلك أسئلةً مهمّة: كيف يُعيد السعي وراء الريع التكنولوجي إنتاج أنماط الإمبريالية القديمة بصيغٍ جديدة؟ وإلى أيّ مدى تُبدّل المنصات الرقمية وأنظمة الملكية الفكرية أشكالَ الاستغلال الاستعماري الكلاسيكية أو تُضيف إليها؟ وهل يُمكن لمسعى الجنوب العالمي نحو السيادة التكنولوجية أن يصنع اقتصاداً رقمياً متعدّد الأقطاب بحق؟
من فائض القيمة عند ماركس إلى إحاطة المعرفة والملكية الفكرية
ننطلق من النظرية الماركسية الكلاسيكية في فائض القيمة والإمبريالية. رأى ماركس أنّ ربحَ الرأسمالي متجذّرٌ في استغلال العمل– إذ ينتزعُ الرأسماليون فائض القيمة بدفعهم للعمّال أقلَّ من قيمة ما ينتجون. وقد كان هذا الاستغلال في القرنين التاسع عشر والعشرين أوضحَ ما يكون في أرض المصنع والمزارع الاستعمارية. غير أنّ ماركس توقّع أيضاً أن تصبحَ العلومُ والتكنولوجيا- تطوّر «العقل العام» للمجتمع- مركزيةً في الإنتاج، بما يفتحُ إمكانية أن تُصبح المعرفةُ نفسها مصدراً للقيمة، أو مشاعاً تُحاط به الرأسمالية وتستولي عليه.
ومع ازدياد كثافة المعرفة في الإنتاج، أشار ماركس إلى أنّ الرأسمالية ستسعى إلى إحاطة المعرفة «عبر البراءات والأسرار التجارية كمثال» وتحويلها إلى قوّة إنتاجٍ مباشرة تحت سيطرتها. وهذا ما نراه اليوم بوضوح في تعامل الشركات مع الأفكار والبيانات والخوارزميات باعتبارها أصولاً خاصة محميةً بحقوق الملكية الفكرية.
الاحتكارات الخمسة، التبادل اللامتكافئ، والهيمنة المالية
يُوفّر سمير أمين جسراً مباشراً من نظرية الإمبريالية الكلاسيكية إلى الحاضر. نظرَ أمين إلى الرأسمالية بوصفها عالميةً منذ منشئها، مُهيكلةً بعلاقةٍ غير متكافئة بين المركز والطرف. وحدّد «خمسةَ احتكارات» تتمتّع بها بلدانُ المركز الإمبريالي:
1- احتكارُ التكنولوجيا. 2- احتكارُ السيطرة على التمويل العالمي. 3- احتكارُ الموارد الطبيعية. 4- احتكارُ الإعلام والاتصال. 5- احتكارُ أسلحة الدمار الشامل.
ويبرز احتكارُ التكنولوجيا– الذي تخلقه مراكزُ الرأسمالية وتؤبّده– بوصفه مصدراً لتراكم الأرباح الفائقة. ويُصان هذا الاحتكار عبر استثماراتٍ ضخمة في البحث والتطوير، والإنفاق العسكري «المحرّك تاريخياً للابتكار»، وأنظمة ملكيةٍ فكرية صارمة تحمي التقنيات من الانتشار.
وتبقى فكرةُ «التبادل اللامتكافئ» مركزيةً هنا: فعملُ الجنوب ومواردُه مُقيّمان بأقلّ من قيمتهما في التجارة العالمية «بفعل فروق الأجور وموازين القوة»، ما يُنتج تحويلاً صافياً للفائض نحو الشمال. وفي العصر الرقمي، يستمرُّ التبادلُ اللامتكافئ، لكن عبر تدفقاتٍ غير ملموسة في الغالب– كعملٍ منخفض الأجر في أفريقيا أو آسيا من أجل وسم البيانات الذي يُحسّن منتج ذكاءٍ اصطناعي في وادي السيليكون، أو معادن رخيصة تُغذّي إلكترونيات الغرب. وقد دعا أمين إلى «فكّ الارتباط» والتنمية المُتمركزة ذاتياً، أي تقليص اعتماد البلدان الطرفية على قواعد الاقتصاد التي يفرضها المركز، مثل: التجارة الحرة والإنفاذ القوي للملكية الفكرية، وبناء قدراتها الداخلية. وتعتبر تحرّكاتُ دولٍ كالصين، أو مبادراتُ المصدر المفتوح في أمريكا اللاتينية، محاولاتٍ لفكّ الارتباطٍ جزئياً في المجال التكنولوجي.
يتوسّع أوتسا وبرابهات بتنايك، في «نظرية الإمبريالية» فكرةَ التبادل اللامتكافئ، بتحليلِ كيف يفرض النظامُ المالي والنقدي العالمي انكماشاً للدخول في الأطراف. ويجادلان بأنّ الإمبريالية تستمرّ في الحقبةِ ما بعد الاستعمار عبر آلياتٍ تُبقي البلدان النامية في حالِ هشّة مع كبحٍ للطلب التكنولوجي. ومن خلال خفض القوة الشرائية لسكان الجنوب «بالانكماش، والتخصّص في المنتجات الأولية…الخ» يضمن النظامُ أسواقاً لفوائض إنتاج الشمال ومدخلاتٍ رخيصة لصناعته. ويصف برابهات بتنايك هذه العملية استمراراً لـ«نزف الثروة» الاستعماري في هيئاتٍ جديدة.
ليست تبعيةُ الجنوب الخارجيّة لِرأس المال الأجنبي والتقنية والأسواق الغربية مصادفةً، بل خاصيّةً بنيوية تُتيح استمرارَ استخراج الثروة. فإذا اضطُرَّ بلدٌ أفريقي إلى إنفاق حصةٍ كبيرة من عائدات صادراته لدفع الإتاوات ورسوم التراخيص، مقابل تقنياتٍ أو أدويةٍ أجنبية، فذلك نوعٌ من الجزية المستمرّة للشمال– يُقلّصُ الدخل المُتاح لتنميته.
للتمويل الدولي دورٌ هائل هنا: هيمنة الدولار والمؤسسات الغربية تدفع اقتصادات الأطراف إلى تفضيل سياساتٍ تُرضي المستثمرين على حساب الرفاه المحلي– ما يؤدي إلى تحويلٍ غير مباشرٍ للفائض على شكل ريع. وكما لخّص باتنايك الأمر: لو لم يبقَ الطرفُ متاحاً لـ«استخراج الثروة وتقديم المدخلات الرخيصة، لانهار النظام»، لذا صيغت العولمة لفرض الانكماش والخضوع المالي في الأطراف. وهذا شديدُ الصلة بالاقتصاد الرقمي، حيث تدفع بلدانُ الجنوب ملياراتٍ مقابل البرمجيات المستورَدة، وترخيص البراءات والخدمات الاستشارية– وهذه تدفّقات خارجة متواصلة تُحبطُ قدرتها على الاستثمار.
الأمْولة والمنصات والإقطاع التكنولوجي
عملياً، تُجرّد الرأسمالية الأفرادَ بلا انقطاع من المعرفة التي ينتجونها جماعياً، سواءٌ عبر محتوى المستخدم غير مدفوع الأجر، أو عبر استيعاب ابتكارات المصدر المفتوح و«احتضانها وتوسيعها» في الشركات. يمتدّ هذا المنظور إلى
المستوى الدولي: فالمعاهداتُ والسياساتُ قادرةٌ على تجريد أممٍ كاملة من خياراتٍ اقتصادية «مثلاً: اتفاقية «تريبس TRIPS» جَرَّدَت البلدان من حرية استخدام الابتكارات». وفي سياق الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، يُشار إلى «تراكمٍ بدئي للبيانات» من الجنوب، بياناتٌ خام تُؤخذ من السكان، غالباً بلا أجرٍ أو وعي، ثم تُصفّى إلى نماذجَ قيّمة في مختبرات الشمال. هذا يُحاكي استخراج الموارد الاستعماري، دفع هذ بالاقتصادي ديفيد هارفي إلى القول: إنّ الرأسمالية الرقمية
في القرن الحادي والعشرين تُدفع بالآليات نفسها من الإحاطة والاستخراج التي وسمت نشأة الرأسمالية الصناعية، ولكن بوسائل عالية التقنية.
يحلل بن فاين وكوستاس لابافيستاس في الأمولة واقتناص القيمة، كيف يُبدّل صعودُ الرأسمالية المُمَولَنة أنماطَ استخراج الفائض. وقد صاغ لابافيستاس مفهوم «الاغتصاب المالي» ليصف كيف يستولي رأس المال المالي مباشرةً على دخولِ العمال وغيرهم «عبر الدَّين، والرسوم، والمكاسب المضارِبة» من دون المرور بعملية إنتاجٍ سلعي.
هذا وثيقُ الصلة بقطاع التقنية، حيث تُطمس الحدود بين النشاط الإنتاجي والنشاط المالي. فكثير من شركات المنصّات الكبرى، المُشبَعة برأس المال المغامر، تعمل بخسائر أو بكلفة هامشية تقارب الصفر، طمعاً في السيطرة السوقية التي ستدرّ لاحقاً عوائدَ شبيهةً بالريع. إنّ قسطاً كبيراً من الربح في سلاسل القيمة العالمية يُقتنص عند القمة، عبر العلامة التجارية والتمويل والملكية الفكرية– أي بواسطة مالكي المنصّات والبراءات وتدفّقات المال، لا المصنّعين الفعليين.
وبالمعنى الماركسي، يبدو هذا تحوّلاً نحو «رأسمالية الريع»، حيث يدرّ امتلاكُ أصل «منصّة، خوارزمية، براءة، مجموعة بيانات» تدفّقَ دخلٍ ريعي. إنّ هذه الأشكال المالية للاستخراج منتشرةٌ في التعامل مع الجنوب العالمي، حيث تستخرج تكتلاتُ التمويل–المنصّات في الشمال رسوماً وعمولاتٍ في كل شيء من التجارة الإلكترونية إلى المصارف. فمثلاً قد لا تُنتج شركةُ «فينتك» الغربية شيئاً ملموساً في كينيا، لكنها، بتحكّمها ببرمجيات الدفع عبر الهاتف، تستطيع اقتطاع رسومٍ من كلّ معاملة – إدماجٌ للجنوب في دوائر ربح الشمال من غير استثمارٍ تقليدي في الإنتاج المحلي. ويُذكّرنا منظور فاين عن «أنساق الإمداد» بأنّ جانبَ الاستهلاك مهمٌّ أيضاً: فأنماط العيش والاستهلاك في الشمال والجنوب تُشكَّل على نحوٍ يسمح بأرباحٍ احتكاريةٍ صعوداً في السلسلة «مثلاً: تصبح الحاجة إلى علاماتٍ وتقنياتٍ غربية «ضرورية» للحياة الحديثة، فتُنشئ أسواقاً أسيرة».
يطرح ڤاروفاكيس أطروحةً مثيرة مفادُها أنّنا نشهد صعود «الإقطاع التكنولوجي»، كنمطِ إنتاجٍ جديد تُشبه فيه المنصّاتُ الرقمية الإقطاعيات. يرى أنّ عمالقة التقنية لم يعودوا مجرّدَ احتكاراتٍ داخل الرأسمالية؛ بل تجاوزوا الرأسمالية التقليدية باستبدالهم الأسواق بمنصّاتٍ رقمية، والأرباحَ بالريع. فالرأسمالية الكلاسيكية تميّزت بأسواقٍ تنافسية وروّاد أعمالٍ يسعون للربح، بينما تعمل شركاتٌ مثل: «آبل» و«غوغل» و«أمازون» و«فيسبوك/ميتا» كأسيادِ ريع يملكون «الأرض» الرقمية، ويجبى منها العُشور والعمولات لكلّ من يتعامل عليها. فمثلاً تأخذ «آبل» ٣٠% من كلّ إيرادٍ يولّده المطوّرون في «متجر التطبيقات».
يُشبه ذلك ريعاً إقطاعياً، كأنّ المطوّرين أتباعٌ يدفعون الجزية لإقطاع «الغيمة». وبالمثل، تفرض «أمازون» رسوماً على التجّار، وتتحكّم في الرؤية، وتستخدم خوارزمياتها لمحاباة منتجاتها، مُقتنصةً الريع بدل المنافسة في «سوقٍ حر». والمستخدمون، في هذا القياس، فلاحون أقنان: كلُّ منشورٍ أو محتوى يُضيف قيمةً للمنصّة، لكنهم غيرُ مأجورين– بل «يكدحون» في أملاكٍ رقمية يسيّلها المالك.
الأيديولوجيا والقطاع العام والسيادة التكنولوجية
يحذّر ڤاروفاكيس من أنّ هذه البنية أقلُّ مساءلةً من الرأسمالية القديمة «إذ غالباً ما تنفلت قوّة المنصّات من التنظيم أو النقابات»، وأنّها تُقوّض الرابط التقليدي بين الرأسمالية وبعض ما يتم زعمه من التقدّم أو المنافسة. وتتناغم هذه الرؤية مع حدس ماركس عن «تصيير الرأسماليين ريعيين»، فهو الذي أشار في «رأس المال» إلى أنّ الرأسمالية كلّما نضجت طلبَ رأسماليون عوائدَ مضمونة شبيهةً بالريع. وعلى الصعيد العالمي، يمكن القول: إن عمالقةَ الشمال التقني حوّلوا كثيراً من الجنوب إلى تبعياتٍ رقمية– تطبيقاتٌ محلية تدفع ريعاً لـ«آبل/غوغل»، وشركاتٌ محليّة تدفع لـ«خدمات أمازون السحابية»، إلخ.
يُقدّم ريتشارد وولف نظرة ذات بصيرة في الجهاز الأيديولوجي الذي يدافع عن الرأسمالية الرقمية. يجادل بأنّ صمود الرأسمالية مردّه جزئياً إلى تسويقها نفسها بوصفها صانعةَ التقدّم والحرّية. وفي حقل التقنية، السرديةُ السائدة تقول: إنّ الابتكار دائماً نافع، وإنّ «تدمير» وادي السيليكون الخلّاق يعود بالنفع على الجميع، وأنّ أيَّ محاولةٍ لتنظيم أو تأميم التكنولوجيا ستخنق التقدّم. يُفنّد وولف ذلك بالإشارة إلى أنّ الابتكار تحت الرأسمالية مُهيكلٌ بعلاقات الطبقة والدافع الربحي. فيلاحظ مثلاً، أنّه رغم القفزات الهائلة في
القدرة الحاسوبية، ما يزال ملياراتٌ بلا حواسيب أو إنترنت– دلالةٌ على أنّ السوق يوجّه الابتكار نحو ما هو مربح «بيع هواتف جديدة لمستهلكين ميسورين» لا ما هو اجتماعيّ الحاجة.
ويُؤكد، أنّ مَن يملك الابتكار أهمّ من الابتكار نفسه لجهة النتائج الاجتماعية. ففي الرأسمالية، ليس المخترعُ غالباً من يجني الفائدة، بل المالكون أو المساهمون الذين لهم الحقوق القانونية– «فالجزاءُ يذهب لمن بيده السلطةُ القانونية على الاختراع». وهذا يوضّح كيف تضمن قوانينُ الملكية الفكرية وبنى الملكية المؤسسية أنّ ابتكاراتٍ مموّلةً عاماً، أو مُنتَجةً جماعياً تنتهي ملكيةً خاصة «تأمّل كيف تحوّل الإنترنت المبكّر– الذي بنته هيئاتُ حكومةٍ وجامعات– إلى سيطرة مجموعة شركات». يدعونا وولف إلى كشف «سحر الابتكار كحَيادٍ تقدّمي»، إذ يحجب علاقاتَ الطبقة خلف التكنولوجيا.
ويُبرز أيضاً، أنّ الابتكارَ المُحرِّري حقاً تعيقُه الرأسمالية– فالتقنياتُ القادرة على تقليص ساعات العمل، ومنح الناس وقت فراغ تُستخدم لزيادة البطالة أو الهشاشة، لأنّ القرار مسنودٌ إلى الربح لا الرفاه. والضجيجُ الحالي حول الذكاء الاصطناعي مثالٌ بَيّن: تُهلّل الشركاتُ لمزاياه الثورية، لكنها تتجنّب توزيعَ المنافع، أو معالجة الأضرار «فقدان الوظائف، الانحياز». وخلاصةُ منظور وولف: التكنولوجيا ليست ذاتية السير؛ بل هي منغرزةٌ في نظامٍ رأسمالي يُحدّد استخدامها وتوزيعها. لذا علينا أن ننزع السحر عن فكرة أنّ «غوغل» أو «آبل» مجردُ مؤسساتٍ مبتكِرة– إنهما أيضاً مؤسستان رأسماليتان تُشكّلان المجتمع لمصلحتهما. وفي السياق، يُذكّرنا هذا بأن نسأل: ابتكارٌ لمن؟ وتحت أيّ ملكية؟ ولأيّ غاية؟ كما يحضّ القارئ على تخيّل ما لو وُجّه «العقل العام» للمجتمع– كلُّ معارفنا العلمية والتقنية– ديمقراطياً للصالح العام، بدلاً من أن تُقيّده الربحيةُ والبراءات.
في اتجاه شبيه، كتبت جاياتي غوش، وهي اقتصاديةُ تنمية بارزة، عن الكيفية التي شهد العصرُ النيوليبرالي فيها تماهياً لقوّة الدولة والشركة، خصوصاً في ميدان التكنولوجيا. تُلاحظ أنّ كثيراً من الاختراقات التكنولوجية «الإنترنت، جي. بي. أس، الأدوية…» ثمرةُ تمويلٍ عامٍّ وبحثٍ تموّله الدولة، لكنّ عوائدها تُحتكَر في الشركات الخاصة تحت أنظمة الخصخصة والملكية الفكرية. وتؤكّد، أنّ رأسمالية القرن الحادي والعشرين تُعمّم الكُلف والمخاطر «عبر البحث العامّ، والدعم، والضغط الدبلوماسي لفتح الأسواق» بينما تخصخص الأرباح– وهو ما يبدو جلياً في صعود عمالقة التقنية.
فالتقنياتُ التأسيسية للهواتف الذكية خرجت من مختبرات الدفاع والجامعات بمالٍ عام، لكن حفنةَ شركاتٍ تجني اليوم ريوعاً احتكارية من المنتجات النهائية. وتُشدد غوش على مفهوم «السيادة التكنولوجية» للدول النامية: إذ ترى أنّ الأسواق وحدها لن توفّر تقنياتٍ ملائمة للتنمية، وأنّ تدخّل الدولة الاستراتيجي ضروري لضمان الوصول إلى التكنولوجيا الأساسية «من الأدوية إلى البنى الرقمية».
وفي تحليلها، أصبح احتكار المعرفة من قِبَل قلةٍ من الشركات المتعددة الجنسية عقبةً جسيمة أمام طموحات الاقتصادات منخفضة الدخل. وتُبرز كيف «تُفصَّل» قواعدُ التجارة والاستثمار العالمية– غالباً تحت نفوذ لوبيات الشركات الكبرى– لصيانة الهيمنة التكنولوجية للدول الغنية على حساب الفقيرة. مثالُها المتكرر الأدوية: حتى حين يمّول دافعو الضرائب تطويرَ دواء، تُمكّن البراءاتُ شركاتِ الدواء الكبرى من منع إنتاج الأدوية غير الحاملة لعلامات تجارية في الجنوب، مُبقيةً الأسعار مرتفعةً والمعرفة محجوبة.
تشملُ أمثلةٌ موازية في التقنية الرقمية معاييرَ برمجية ومادية مِلكية تُبقي البلدان الفقيرة على تبعيةٍ لشركات الغرب. وتدعو غوش إلى العلم المفتوح، وتشارك التكنولوجيا، وخياراتٍ عامة أقوى– كأن تتعاون الحكومات في تطوير برمجيات المصدر المفتوح، أو تجمع مواردها لإنتاج أدويةٍ جنيسة ومنافع رقميةٍ عامة. ويُعزز منظورُها الفكرةَ القائلة إنّ الفعل الجماعي الذي تقوده الدولة «لا التسيّب الليبرالي» أساسي إذا أراد الجنوبُ كسر النمط الراهن، حيث يقود الابتكارُ غالباً إلى ريعٍ يحتكره رأسُ مال الشمال بدل مكاسبَ واسعة القاعدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1251
عروة درويش