لا رأسمالية بلا دولة! السيطرة شرط البقاء في القرن الحادي والعشرين
عروة درويش عروة درويش

لا رأسمالية بلا دولة! السيطرة شرط البقاء في القرن الحادي والعشرين

تُصِرّ أسطورة النيوليبرالية على أنّ الدولة يجب أن «تبتعد عن طريق» الأسواق. في الواقع، مع ذلك، لا يمكن لأيّ اقتصادٍ رأسماليٍّ كبير اليوم أن يصمد دون تدخّلٍ نشطٍ من الدولة. كما تُلاحظ عالمة الاقتصادي جاياتي غوش، فإنّ رأسمالية القرن الحادي والعشرين تعمل عبر دمج الربح الخاصّ بالتحكّم العام، حيث تضمن الحكومات شروط التراكم في الوقت الذي تُصوَّر فيه الأسواق على أنّها «حرّة». نحاول هنا أن نختبر هذه الفرضية من خلال ثلاث دراساتٍ لحالاتٍ معاصرة: أمريكا، والاتحاد الأوروبي، والجنوب العالمي في ظل الإمبريالية المالية – لإظهار حقيقةٍ مشتركة: الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين لا يمكن لها الاستمرار من دون الدولة، إذْ توفّر الدولة السِّقالة التي يتكئ عليها الربح.

أمريكا: إنقاذ وتكنولوجيا كبرى ودولة رفاه للشركات


تُرى أمريكا غالباً كأصفى أشكال رأسمالية السوق الحرّة، لكنّها عملياً الاقتصاد الأكثر تلقّياً للدعم في التاريخ. تسند الدولة الأمريكية أرباح الشركات عبر إنقاذاتٍ ماليةٍ ضخمة، وإنفاقٍ دفاعيٍّ هائل، وتنظيمٍ متساهلٍ مع الاحتكارات الرقمية.
حين ضربت أزمة 2008 لم «تَدَع» واشنطن الأسواق «تعمل»؛ بل أنقذتها. خصّص الكونغرس 700 مليار دولار لبرنامج «إنقاذ الأصول المتعثّرة» TARP لدعم المصارف، وقدّم الاحتياطي الفيدرالي شبكة أمانٍ أكبر بكثير. بحلول مطلع 2009، وكان الفيدرالي قد التزم بنحو 7.8 تريليون دولار على شكل قروضٍ وضمانات لإنقاذ النظام المالي – وهو رقم يفوق بكثير عنوان الـTARP.


بعد عقد، تكرّر المشهد مع صدمة «كوفيد–19»: أُقرّت حزمة طوارئ بنحو 5 تريليونات دولار، لكن الكثير منها تجاوز الناس العاديين وذهب إلى الشركات. فقد ذهب أكثر من النصف «نحو 2.3 تريليون دولار» إلى الأعمال، غالباً بشروطٍ مخفّفة، في حين وصل نحو الخُمس فقط «884 مليار دولار» إلى العمّال والعائلات.


لهذا وتجسيداً لوصفها «بالحارس الليلي» للرأسمالية، أدّت الدولة دور المؤمِّن الأعلى على شركات أمريكا– تُؤمّم الخسائر، وتثبّت الأسواق في اللحظات الحرجة.
كما تُغذّي الحكومة الفيدرالية الصناعة مباشرةً عبر الإنفاق العسكري. بلغت ميزانية الدفاع لعام 2024 مبلغ 886 مليار دولار– إنفاقٌ عامٌّ ضخم يدعم فعلياً متعهّدين مثل «لوكهيد مارتن» و«بوينغ» و«ريثيون». تستمدّ هذه الشركات معظم دخلها من عقود الحكومة. تحصل «لوكهيد مارتن» مثلاً على أكثر من 70% من إيراداتها من وكالات فيدرالية أمريكية، بينها 65% من البنتاغون. لعقودٍ طويلة، صبّ الإنفاق الدفاعي المُتضخَّم المال العام في خزائن الشركات الخاصة باسم «الأمن القومي»، فغدا قطاع السلاح ركيزةً لاقتصادٍ مدعومٍ بالدولة.


يتم الاحتفاء بعمالقة التكنولوجيا بوصفهم انتصار للمبادرة الفردية، غير أنّ هيمنتهم بُنيت على الاستثمار العام والإشراف الرسمي المتساهل. تعتمد احتكارات البيانات على تقنياتٍ طُوِّرت أولاً عبر البحث والتطوير الحكومي؛ فكلّ ابتكارٍ جوهري جعل «الآيفون» ذكياً– الإنترنت، GPS، شاشات اللمس، وحتى «سِيري»– موَّلته برامج حكومية أمريكية. وإلى ذلك، استفادت الشركات من تراخي مكافحة الاحتكار، ومن شراكاتٍ وثيقة مع جهاز الأمن.
كشفت تسريبات سنودن أنّ برنامج PRISM لدى «وكالة الأمن القومي» امتلك وصولاً مباشراً إلى خوادم «غوغل» و«فيسبوك» و«آبل» وغيرها لجمع بيانات المستخدمين. إذن تأسس صعود «وادي السيليكون» على ابتكارٍ مموَّلٍ عمومياً، وهو اليوم متشابكٌ مع دولة المراقبة– ليعطينا مثالاً على تلاحم الرأسمالية الرقمية والسلطة.


تُفسَّر الحالة الأمريكية بمفهوم «الإصلاح المكاني» لدى ديفيد هارفي– حيث يتجاوز رأس المال أزماته بالتوسّع في فضاءاتٍ جديدة، وقد سهّلته في 2008–2009 توسعةٌ هائلة للسيولة والديْن من جانب الدولة. وبمفهوم نيكوس بولانتزاس عن «النظام السلطوي» الذي يرى تطبيع الصلاحيات الاستثنائية: تبقى الواجهات الليبرالية، بينما تتجاوز الدولة القيود الديمقراطية لتأديب العمال وتأمين رأس المال. من «قانون باتريوت» إلى إغاثات الجائحة، نرى دولةً متجرِّئة تتدخّل قسرياً ومالياً لإسناد النظام الرأسمالي: «ليبرالية» السوق مرفوعة على كتف سلطةٍ عامةٍ أقوى.


الاتحاد الأوروبي: سلطةٌ نقدية وتثبيتٌ للشركات


يُقدَّم الاتحاد الأوروبي كمنظومةٍ قائمةٍ على قواعد السوق وحَوكمةٍ فوق قومية «منضبطة». عملياً، تصرّف كمدير أزماتٍ وضامنٍ لرأسمال أوروبا، مستخدماً قوّة نقدية وقواعد مالية
لتثبيت المصارف والشركات– فيما فُرض التقشّف على السكان. تُخفي التكنوقراطية كيف تتدخّل الدول جماعياً لإسناد القطاع الخاص.


بعد 2008، ومجدداً خلال الجائحة، أطلق البنك المركزي الأوروبي موجاتٍ استثنائية من «التيسير الكمي» وبرامج شراء الأصول، فَحُقِنَت الأسواق بتريليونات اليوروهات. بين 2015 و2022، بلغت برامج الشراء المختلفة نحو 4.9 تريليون يورو، فانتفخت ميزانية البنك إلى مستوياتٍ غير مسبوقة. استفادت المصارف والمُقترضون الكبار من تمويلٍ أرخص. وخلال صدمة «كوفيد–19»، أطلق البنك «برنامج الشراء الطارئ للجائحة» PEPP بقيمة 1.85 تريليون يورو، حافظ من خلاله على كلفة اقتراضٍ متدنية للحكومات والشركات. كانت النتيجة «إنقاذاً خفياً»: تمّ تمويل المخاطر الخاصة من ميزانيةٍ عامة، فيما تحمّل الملايين ضيق العيش.


بالتوازي، فرضت مؤسسات الاتحاد «المفوضية، اليوروغروب، وصندوق النقد– الترويكا» تقشّفاً وبيعاً لأصولٍ عامة للدول المتأزّمة. أوضح الأمثلة: اليونان بعد 2010. مقابل قروضٍ أنقذت مصارف فرنسية وألمانية مُعرَّضة للديون اليونانية، طُلِب إلى أثينا خفض الإنفاق العام، وبيع شركاتٍ وبُنى تحتيةٍ بأسعارٍ زهيدة. جرى تمرير الموانئ والمطارات والمرافق وحتى الجزر إلى مستثمرين أجانب تحت ضغط الدائنين. إجراءاتٌ شبيهة، وإن أقل حدّة، طُبِّقت في إيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا. كرّست القواعد المالية، مثل: «ميثاق الاستقرار والنمو»، هذا النهج، حيث تمّ تقييد الاستثمار الاجتماعي تحت شعار الانضباط، لكنّ هذا الانضباط لا ينطبق على إنقاذ المصارف أو إعانات الشركات، فيتم تقييدها.
حالةٌ راهنة كاشفة هي سياسة الاتحاد للانتقال الأخضر. خطابياً، تتصدّر أوروبا المناخ. عملياً، تُوجَّه حصص معتبرة من «السياسة الصناعية الخضراء» إلى دعم شركات الطاقة الكبرى أكثر من المجتمعات. في 2022، ومع طفرة الأسعار، أنفقت حكومات الاتحاد إعانات طاقةٍ قاربت 390 مليار يورو، ذهب جزءٌ كبيرٌ منها لتمويل الاستهلاك الأحفوري «تخفيضات ضريبية وسقوف أسعار» أو لتعويض مرافق كبرى ومصنّعين. كما أنّ برامج الهيدروجين
والسيارات الكهربائية كثيراً ما أفادت الشركات الراسخة ذات النفوذ.


يمكن قراءة التجربة الأوروبية عبر عدسةٍ ماركسيةٍ جديدة تستعيد هيلفردنغ ولينين حول اندماج الدولة برأس المال المالي. سخاء البنك المركزي الأوروبي جعله «مصرفاً عملاقاً» يخدم مصالح رأس المال المالي، فيما خدم التقشّف الحفاظ على قيمة أصول الدائنين على حساب رفاه المواطنين. انتقلت السيادة– في الواقع– من حكوماتٍ منتخبة إلى هيئاتٍ تكنوقراطية «البنك المركزي والمفوضية» تخدم الأسواق أكثر مما تخدم الناخبين. هكذا يغدو «الاتحاد النقدي» آليةً متقدّمة لتجميع وظيفة الدولة الرأسمالية: توحيد موارد الإنقاذ في الأزمات، فرض الانضباط على العمل والدول الأضعف، وتنسيق السياسة لصالح النخبة المالية والصناعية.


الجنوب العالمي: الإمبريالية المالية وإعادة هندسة الدولة


في العالم النامي ما بعد الاستعمار، وعدت النيوليبرالية بأنّ الأسواق والعولمة ستقود النمو. لكنّ الدولة أُعيد تشكيلها لخدمة رأس المال العالمي، وتابعيه من رأس المال المحلي، ضدّ مصالح الأغلبية المفقرة. عبر شروط الديون، وقواعد التجارة، وبرامج «الإصلاح»، تحوّلت دول الجنوب إلى منفّذٍ للتقشّف وسياساتٍ استخراجية– شكلٌ من الإمبريالية المالية يقوّض السيادة والتنمية.


خلال العقود الأخيرة– وخصوصاً منذ «كوفيد–19» – دُفعت عشرات الدول إلى اعتماد موازناتٍ تقشّفية كشرطٍ للحصول على قروضٍ، أو إعفاءاتٍ من الديون. تُفيد «أوكسفام» بأنّ نحو 85–87% من قروض الصندوق زمن الجائحة إلى الدول الفقيرة والمتوسطة جاءت مرفقةً بمطالب تقشّفية. أي أنّ الغالبية الساحقة من 107 برامجٍ إقراضيةٍ أوصت أو اشترطت خفض الإنفاق العام، سقوف الأجور، زياداتٍ ضريبية على الاستهلاك، وغيرها. ففي 2021، طلب الصندوق من الإكوادور تقليص الإنفاق الصحي أثناء ذروة الأزمة الصحية، وضغط على دولٍ من أنغولا إلى سريلانكا لخفض الدعم والوظائف. والنتيجة موجة تقشّفٍ شاملة: تُظهر تحليلات المجتمع المدني أنّ نحو 75% من الدول ستكون تحت التقشّف بحلول 2025 إن استمرت الاتجاهات.
إنّ حجم الانكماش المالي المفروض على الجنوب مذهل. تُشير تقديرات حديثة إلى أنّ أكثر من نصف الدول الأشد فقراً «نحو 2.4 مليار نسمة» ستُقَلِّص إنفاقها العام بحوالي 229 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة. أحد الأسباب الرئيسة هو عبء الدين الخارجي ومطالب الدائنين. تُقدّر «أونكتاد» أنّ 3.3 مليارات إنسان يعيشون في دولٍ تُنفق أكثر على فوائد الديون مما على الصحة أو التعليم. في بلدانٍ منخفضة الدخل، تلتهم خدمة الدين أكثر من 20% من الإيرادات الحكومية، فتُجبر الحكومات على تقليص الخدمات الأساسية لتفادي التعثّر. عملياً، يُعاد توجيه موارد الدول الفقيرة إلى الخارج– بتحويلاتٍ صافية لصالح الدائنين العالميين.


إلى جانب القيود المالية، يُستنزَف الجنوب عبر معاهدات الاستثمار وخصخصة الموارد. تحت ضغط المقرضين والشركات، منحت حكوماتٌ كثيرة امتيازاتٍ واسعة لشركات التعدين والنفط والزراعة الأجنبية بشروطٍ مجحفة. خلال «التكيّف الهيكلي» في الثمانينيات–التسعينيات، خُصخصت شركاتٌ وطنية وفُتحت الأراضي للتأجير الأجنبي، على أمل كفاءةٍ لم تتحقق غالباً.


اليوم تُستخرج المعادن والأخشاب والسلع الزراعية وتُرحّل الأرباح، فيما لا تحصل الدول المضيفة إلا على فتات الضرائب والرسوم. تُخفَّف معايير البيئة والعمل لجذب الاستثمارات، وعندما تقاوم المجتمعات «ضد التلوّث أو اغتصاب الأراضي»، تتدخّل الدولة لقمعها لحماية «مناخ الاستثمار». هذا ما سمّاه سمير أمين «التراكم على الصعيد العالمي»: تُستنزَف الأطراف لإثراء المركز. دور الدولة هنا مُفارق: مستقلةٌ شكلياً، لكنها فعلياً تُيسّر الاستغلال الخارجي. يصف أمين و «ولرشتاين» ذلك بأنه بنية «مركز–طرف» مُحكَمة، وتُبقِي الأطراف مُقيَّدةً بخدمة التراكم في المركز.


تُثبت خبرة الجنوب أطروحات التبعية. لم تُذِب العولمة النيوليبرالية الدول، بل أعادت تشكيلها. غدت دولٌ نامية وكلاءَ لرأس المال العابر للحدود، تُطبّق التقشّف وتضمن حقوق المستثمرين، حتى ضد إرادة الشعوب ومصالحها. تشير تحليلات حديثة إلى أنّ 57% من أفقر البلدان تخفّض الإنفاق تحت ضغط الدائنين، بينما تدفع قرابة 0.5 مليار دولار يومياً فوائد حتى 2029. هذا هو «الاستعمار المالي» بوجهٍ جديد. المحصّلة إفقار الديمقراطية وتفريغ القدرة التنموية: الدولة حاضرة، لكن أجندتها مُقرّرةٌ خارجياً.


التركيب المقارن: أربعة وجوهٍ للدولة الرأسمالية


عبر الأمثلة الثلاثة – أمريكا، والاتحاد الأوروبي، والجنوب المديون – تختلف الأشكال السياسية، لكن هناك نمطاً واحداً يتكرّر: الرأسمالية تعتمد على الدولة كضامنٍ للربح والاستقرار. لكلّ نظامٍ وجهٌ خاص:
في أمريكا، الدولة مُنقِذٌ ومُنفِّذٌ للقطاع المالي: تُنقذ «وول ستريت» في الأزمات، وتوفر رفاهيةً مستدامةً للشركات «من العقود الدفاعية إلى المزايا الضريبية»، وتستخدم القسر القانوني لكبح العمل. يُغطّي خطاب «السوق الحرّ» واقعاً مُدعَّماً بتريليوناتٍ من المال العام– دولة رفاهٍ للشركات على نطاقٍ غير مسبوق.


في الاتحاد الأوروبي، الدولة «الوطنية وفوق–القومية» مدير أزماتٍ ومُثبِّتٌ لرأس المال. استجابت أوروبا بالاجتماع على تأميم المخاطر عبر البنك المركزي، وفرض الانضباط الذي يخدم رأس المال «التقشّف وقواعد الدائنين». تعمل المؤسسات فوق–القومية كـ «دولة رأسمالية جماعية» تضع ثقة الأسواق والمستثمرين أولوية على رفاه الجمهور.
في الجنوب العالمي، تحوّلت دولٌ كثيرة إلى وكلاء لرأس المال العابر للحدود ولأنظمة الدَّيْن، مهمتها فرض التقشّف، وفتح الموارد للاستخراج، وقمع أي مقاومة لضمان السداد وتحويل الأرباح.
ورغم الفوارق، تبقى الحقيقة الثابتة: الرأسمالية من دون الدولة وهم. في كلّ سياق، تُعدّ الدولة سِقالةً لا غنى عنها للربح– عبر الإنفاق والملكية المباشرة، أو المحاباة التنظيمية والقسر القانوني، أو التوجيه الكلي وتدبير الأزمات. تُبرز بعض المؤشرات المقارنة شمولية الدور العام:
عبر اقتصادات «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، بلغ الإنفاق الحكومي نحو 42–43% من الناتج في 2023، ما يعكس الحصّة الهائلة للدولة في تدوير الدخل القومي. حتى في أمريكا «صغيرة الحكومة»، بلغ الإنفاق 36%، كما تتراوح نسب الإنفاق العام في دولٍ متوسطة الدخل بين نحو 30–40% من الناتج، بما يناقض الحدّ الأدنى الذي تتصوّره النيوليبرالية.


بلغت إعانات الوقود الأحفوري– وهي مجرّد جزءٍ من إعانات الشركات– رقماً قياسياً عند 7 تريليونات دولار في 2022، أي أكثر من 7% من الناتج العالمي، تشمل تقديرات «صندوق النقد» الإعانات المباشرة والضمنية «تكاليف خارجية غير مُسعَّرة، إعفاءات ضريبية...» التي تَسند أرباح النفط والغاز والفحم. وإذا أضفنا إعانات قطاعاتٍ أخرى «البحث والتطوير، الزراعة، الإنقاذات، الاستثناءات الضريبية»، قفز المجموع إلى تريليوناتٍ عدّة كلّ عام– عادة عالمية: مالٌ عام لأجل مكاسبٍ خاصة.
تكشف بيانات اللامساواة المُستفيد النهائي. منذ 2020، استحوذ أعلى 1% عالمياً على نحو ثلثي الثروة الجديدة «نحو 42 تريليون دولار». يعكس هذا أنّ التعافي ما بعد الجائحة– المُدار بإنفاقٍ عامٍّ هائل– تدفّق disproportionately إلى القمّة. وتكرّر المشهد بعد 2008 حين رفعت سياسات البنوك المركزية أسعار الأصول فزادت ثروات النخب، بينما ركدت الأجور. تلك النتائج ليست «طبيعة السوق»، بل حصيلة خياراتٍ سياسية: نظمٌ ضريبية تُفضّل رأس المال، حمايةٌ ضعيفةٌ للعمل، وتيسيرٌ كمي ينفخ الأسهم.


الأدلة دامغة: «وعد» الأسواق ذاتيّة التنظيم لا يقوم إلا على تدخّلٍ مُتزايدٍ للدولة– غالباً بطرقٍ غير ديمقراطية أو معتمة- لم تعنِ الحقبة النيوليبرالية «دولةً أقل»، بل «دولةً مُعاد توظيفها»: تتدخّل بقوّة لحماية الأرباح، وتأديب العمال، وإدارة الأزمات، بينما ترفع لافتة تقديس السوق كتمويه إيديولوجي فج. من هنا ما يُسمّيه الباحثون
«النيوليبرالية السلطوية»: اقتصادٌ مُحصّنٌ من المحاسبة الشعبية، واندماجٌ مُتسارع بين سلطة الدولة ورأس المال الخاصّ بحدٍّ أدنى من الرقابة الديمقراطية.
تُحذّر جاياتي غوش من أنّ تحوّل الدول إلى أدواتٍ بيد رأس المال الكبير– إنقاذ مليارديرات، إعانة احتكارات، فرض التقشّف– يُفضي إلى تآكل الديمقراطية ذاتها. نرى «أسواقاً حرّة» بالاسم، فيما الأسواق مُصمَّمة ومسنودة بعنايةٍ من الدول لخدمة قلّةٍ مميّزة.
إذا أرادت المجتمعات نتيجةً مختلفة– أكثر عدلاً واستدامةً وديمقراطية– فعليها استرداد الدولة كوسيلة غايةٍ عامة لا كوثيقة تأمين لطبقةٍ رأسمالية. «الوضع الطبيعي الجديد» للنيوليبرالية السلطوية ليس قدراً. فالدولة ذاتها التي تُؤمّن رفاه الشركات يمكن، من حيث المبدأ، إعادة توجيهها إلى رفاه العموم. في النهاية، الصراع هنا ليس بين «الدولة» و«السوق»، بل حول مَن يسيطر على الدولة ولصالح مَن تتدخّل. فقط بالاعتراف بدور الدولة المركزي في الاقتصاد السياسي– ثم ديمقراطية هذا الدور– يمكن ترجيح الكفّة بعيداً عن حكم الأثرياء نحو نظامٍ يخدم الكثرة لا القلّة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1250